تحفة القراء في رحلة ابن بطوطة الغرّاء (3)

- Advertisement -

علاء البكري

خرج ابن بطوطة من مسقط رأسه طنجة، وهي المدينة الصغيرة ذات المجتمع الضيق، ومن ثقافة شيوخه الدينية والتراثية، إلى عالم أرحب، وبلدان مختلفة، ومجتمعات متعددة بتعدد ثقافاتها.

 إثر حلوله بمدينة دمياط المصرية، يورد ابن بطوطة حكاية الولي الصالح جمال الشاوي، حينما ذهب إلى المقبرة والتقى بقاضيها ابن العميد في جنازة أحد الأعيان، فبادره هذا الأخير: أنت الشيخ المبتدع. فردّ عليه: وأنت القاضي الجاهل، تمر بدابتك بين القبور، وتعلم أن حرمة الإنسان ميتاً كحرمته حياً. فقال له القاضي: وأعظم من ذلك حلقك للحيتك. فزعق الشيخ جمال ثم رفع رأسه، فإذا هو ذو لحية سوداء عظيمة، فعجب القاضي ومن معه، ونزل إليه من دابته، ثم زعق ثانيا فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة، ثم زعق ثالثاً فإذا هو على هيأته الأولى بلا لحية.

ودفعت أحداث هذه الحكاية الخارقة بالقاضي إلى بناء زاوية للشيخ جمال الشاوي أقام فيها طيلة حياته، ليصبح الشيخ (المبتدع) ولياً من أولياء الله الصالحين من ذوي الكرامات والخوارق التي تستحق الإجلال والنزول من الدابة.

ومن حكايات المكاشفة التي سمع عنها رحالتنا إبان إقامته بمدينة الإسكندرية بمصر، حكايةُ الشيخ الصالح العابد المنقطع المنفق من الكون أبي عبد الله المرشدي، وهو من كبار الأولياء المكاشفين وأنه منقطع بمنية بني المرشد وهي قرية بمحافظة كفر الشيخ إلى اليوم، وله زاوية هناك منفرد فيها، لا خديم له ولا صاحب. ويقصده الأمراء والوزراء، وتأتيه الوفود من طوائف الناس في كل يوم، فيطعمهم الطعام وكل واحد منهم ينوي أو يشتهي أن يأكل عنده طعاما أو فاكهة أو حلوى؛ فيأتي لكل واحد بما نواه في نفسه دون أن يتكلم أو يطلب ذلك.

ويلقى ابن بطوطة من الغرائب والعجائب في بلاد الصين ما لم يلقه في بلاد غيرها، ومن بين هذه الحكايات نذكر حكاية وقعت له في البحر بين الصين وجاوة (أندونيسا)، حكاية الرخ العجيبة. ويورد في تحفته أنه ظهر لهم بعد طلوع الفجر جبل في البحر، كان يفصلهم عنه ما يقارب العشرين ميلا، وكانت الرياح قوية تحملهم صوبه، فعجب البحارة وقالوا: لسنا بقرب من البر، ولا يعهد في البحر جبل، وإن اضطرتنا الريح إليه أهلكنا.

فلجأ الناس إلى التضرع والإخلاص، وجددوا التوبة، وابتهلوا إلى الله بالدعاء، وتوسلوا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ونذر التجار الصدقات الكثيرة، وكتبها لهم ابن بطوطة في زمام بخط يده، وسكنت الريح بعض السكون، ثم رأوا ذلك الجبل عند طلوع الشمس قد ارتفع في الهواء، وظهر الضوء فيما بينه وبين البحر، فعجبوا جميعهم من ذلك، ويحكي ابن بطوطة أنه رأى البحرية يبكون ويودع بعضهم بعضا، فسالهم عن شأنهم، فأخبروه أن الذي تخيلوه جبلا كان طائر الرخ. فإن رآهم أهلكهم. فأخذوا يقتربون منه وهم خائفون وجلون حتى منّ الله عليهم بريح طيبة صرفتهم من صوبه، فلم يروه ولا يعرفوا حقيقة صورته.

وإلى اللقاء في الأسبوع المقبل مع حكايات وقصص قد يستحيل على القارئ/المتلقي استيعابها وتصديقها.