الأغنية المغربية
إن الباحث في تاريخ الموسيقى المغربية يرى ويلمس ذلك الغنى والتنوع الذي يتسم به الميدان الموسيقي بالمغرب. ففي المملكة المغربية فقط، يجد الزائر نفسه أمام أصناف وألوان شتى من الطرب والموسيقى، ومن بين أهم هذه الأنواع وأكثرها شعبية نجد الطرب الأندلسي، الطرب الصوفي، الملحون، الطرب الحساني، الموسيقى الأمازيغية،، الموسيقى الشعبية، الموسيقى السفاردية (اليهودية) أو ما يعرف بفن المطروز…
ويعود هذا التنوع في الأشكال الموسيقية والطربية في الساحة الفنية المغربية، إلى الأوضاع التاريخية التي عاشها المغرب، واختلاف الدول الحاكمة المتعاقبة عليه (الأدارسة، والمرابطون. والموحدون، والمرينيون، والوطاسيون، والسعديون، والعلويون)، وكذا استراتيجية موقعه الجغرافي الذي جعل منه بؤرة للتلاقح الثقافي. لكن هذا التعدد لا يمثل في الواقع سوى صورة مصغرة عن مجتمع فسيفسائي انصهرت فيه مختلف الحضارات منذ قرون مضت.
فبالإضافة إلى الوفود والهجرات العربية على المغرب إبان العصر الإسلامي وقبله، والتي كان لها دور بارز في زرع البذور الأولى للحركة الموسيقية البربرية، بفضل القوافل التجارية والحملات العسكرية التي حملت معها الموسيقى اليمنية وموسيقى الخليج العربي، وما طبعهما من مؤثرات فارسية، حملت هجرات الأندلسيين – مسلمين ويهود – إلى المغرب التراث الموسيقى الأندلسي الزاخر سيما بعد سقوط آخر معقل للفردوس المفقود “غرناطة” سنة897هـ/1492م. وكان لهذا الفن الزاخر والرفيع أثره البالغ في إعادة صياغة ملامح الموسيقى والغناء في المغرب، فامتد تأثير الموسيقى الأندلسية إلى الغناء الشعبي القائم على الزجل حتى أخذ يقترب في قالبه الشعري من القصيدة الفصحى وبخاصة في “فن الملحون”. وبفضلها اغتنت الموسيقى المغربية بألحان وموازين جديدة. نتيجة ابتكار مقام “نوبة الاستهلال” في دنيا الألحان والمقامات، وابتكار إيقاع الدرج كما أشار إلى ذلك عبد العزيز بن عبد الجليل في كتابه “مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية” .
على إثر هذا، فإن الموسيقى المغربية انقسمت إلى قسمين؛ القسم الأول ارتبط بالفئة الشعبية في المجتمع المغربي، ويتمثل في الموسيقى الشعبية ذات الألوان المختلفة، كفن الملحون والعيطة والمرساوي والكناوي والدقة المراكشية والطقطوقة الجبلية وأحيدوس وأحواش وأجماك والدرست وهوارة والغنوج وإزارن وأغاني الروايس والهيت… إلخ. بينما ارتبط القسم الثاني بالفئة النخبوية المدينية الميسورة، ويتجلى في الموسيقى الأندلسية التي انتشرت في المدن المغربية التي سكنها واستقر بها المهاجرون الأندلسيون، خاصة تطون وفاس والرباط ووجدة.
وخلال مرحلة الاستعمار التي عاشها المغرب منذ سنة 1912، أصبحت هذه الأقسام الموسيقية على تنوعها أداة للتعبير عن الظلم والقهر والاستبداد الذي يعيشه المغربي فوق أرضه، كما ساهمت في كسر حواجز الرهبة من المحتل، وأحيت في المغاربة روح الهوية والأصالة وحب الحرية والأرض، وأوقدت في نفوسهم شرارات الغضب والانتقام دفاعًا عن المقدسات.
مع بداية الثلاثينات من القرن الماضي، بدأت تتبلور في المغرب حركة موسيقية جديدة، تنشد لنفسها الحداثة والاختلاف عن الموسيقى التقليدية؛ بشقيها الشعبي والأندلسي، دون أن تتخطى الرصيد الفني لهذا التراث الأصيل، بل وظفته في إبداع وتطوير أغنية مغربية حديثة ، تأثرت كثيرا بالموسيقى المشرقية التي انتشرت في المغرب مع انتشار الحاكي، وظهرت على أمواج الأثير مع ظهور الإذاعة.
إن ما ساعد على ظهور بوادر أغنية مغربية حديثة، مبادرة الملك الراحل محمد الخامس في تأسيس عدد من الأجواق والفرق الموسيقية، كان أبرزها “الجوق الملكي للموسيقى العصرية”، برئاسة الموسيقار المصري الكبير مرسي بركات، حيث شكلت هذه المبادرة خطوة مهمة جدا لهذه المرحلة الجديدة التي ستشهدها الأغنية المغربية الحديث، أو ما أطلق عليها اسم “الأغنية المغربية العصرية”.
لقد شكل انعقاد مؤتمر الموسيقى العربية الأول سنة 1932 بالقاهرة، الذي عرف مشاركة المغرب بوفد موسيقي غلب عليه الطابع الأندلسي، محطة مهمة جدا أتاحت للموسيقيين المغاربة التعرف عن كثب على التقدم والرقي الذي طال الأغنية العربية المشرقية، سيما وأن المؤتمر كان يضم رواداً موسيقيين مصريين كبار من طينة محمد عبد الوهاب، القصبجي، الشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم، الأمر الذي أذكى الوعي الفني لدى الموسيقيين المغاربة، وزاد من إصرارهم على تطوير الأغنية المغربية لتُلائِمَ العصر.
في العام 1952، ستعرف الأغنية المغربية بداية ازدهارها مع تأسيس أول جوق إذاعي يحمل اسم “جوق الطرب العصري” للإذاعة المركزية بالرباط برئاسة الملحن أحمد البيضاوي، ذاع صيتها في مختلف أرجاء المغرب، ولمعت بفضلها أسماء وازنة في التلحين الموسيقي والأداء كـمحمد فويتح، والأخوان عباس والغالي الخياطي، وعبد الوهاب أكومي، وعبد الرحيم السقاط، وغيرهم من الرواد المبدعين الذين عملوا على جعل الأغنية المغربية العصرية أنموذجا يضاهي في رقيه وروعته الأغنية المشرقية.
وبعد أن كان الفنانون المغاربة يؤدون الأغاني المصرية واللبنانية والخليجية بحثا عن التألق والانتشار، عمل هؤلاء الرواد على إكساء الأغنية المغربية الجديدة طابعها المحلي، فدأبوا على نظم كلمات أغانيهم بأنفسهم، وصاغوها في قالب لحني جميل ومعبر، وأعطوها من أصواتهم ما حببها أكثر إلى نفوس الجماهير الشعبية، من بينهم الراحل الحسين السلاوي، الذي استطاع أن يغزو الساحة الفنية المغربية حينئذ، بفضل أغانيه التي كان يكتبها ويلحنها بنفسه، والتي مازالت شائعة إلى الآن، من قبيل؛ “يا موجة غني”، “حضي راسك”، “السانية والبير”، “”العروبية مطورين”، آش بلاني بيك”، “يا غريب ليك الله”.
كما يحضر اسم الملحن الكبير عبد السلام عامر الفنان العصامي الموهوب الذي تشرب الموسيقى المشرقية فنظم على منوالها أغاني مغربية تواكب العصر مثل “آخر آه”،”سبحان الإله”، “وطني يا قلعة الأسود”، “واحة العمر”، القمر الأحمر”، “قصة الأشواق”، “راحلة”، وغيرها. وكانت أعماله وراء نجاح العديد من الأصوات الغنائية المغربية التي ستحمل مشعل الأغنية المغربية فيما سيأتي، كـ عبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي وعبد الحي الصقلي وإسماعيل أحمد وليلى الشنا….
ونجد اسم عبد الرحيم السقاط حاضرا بقوة ، فالرجل يعتبر من أبرز الملحنين المغاربة الذين تركوا بصمتهم على الأغنية المغربية، حيث سجل أول لحن له “علاش يا غزالي” مع المطرب الراحل المعطي بلقاسم، وأبدع مجموعة من أروع الأغاني المغربية مع أشهر المطربين المغاربة آنذاك، فغنى له عبد الوهاب الدكالي “وشاية” و”بلغوه سلامي”، وفتح الله المغاري “كاس البلار”، وعبد الهادي بلخياط “الهاتف” و”صدقت كلامهم” و”قطار الحياة”.
كما اشتهرت أغاني كثيرة في ذلك الوقت، أعلنت عن استقلال الأغنية المغربية، ك”مرسول الحب”، “كان يامكان”، “يا بنت المدينة”، “الله حي”، “منية الروح”، “رقصة غرناطة”، “ما أنا إلا بشر”، يا سيدي أنا حر”…
ومن بين الأسماء الأخرى التي اشتهرت في دفع الأغنية المغربية إلى آفاق رحبةجديدة، نذكر محمد الحياني، ومحمود الإدريسي، وفتح الله المغاري، وعبد المنعم الجامعي، ومحمد الغاوي. وعلى الرغم من أن الأغنية المغربية العصرية كانت تفتقر إلى الأصوات النسائية في بداية عهدها، إلا أنه وبعد هذه الفترة بوقت قصير ستظهر في الساحة المغربية الموسيقية مطربات ومغنيات أمثال أمينة إدريس، لطيفة الجوهري، سعاد حاجي، وخديجة اليوسي، وبرزت فيما بعد أسماء أخرى منها: نعيمة سميح، سميرة بنسعيد في بداية مشوارها الفني، نعيمة صبري، ليلى الشنا، عائشة علوي، عزيزة جلال، فاطمة مقدادي، لطيفة رأفت، ماجدة عبد الوهاب، رجاء بلمليح، حياة الإدريسي، كريمة الصقلي، وسميرة القادري.
وقد ساهم في مسيرة الأغنية المغربية العصرية ثلة من الشعراء وكتاب الكلمات المغاربة، أبرزهم في القصيدة عبد الفتاح قباج، ومحمد حكم، وعلال الفاسي، ومحمد بن عبد الله، وعبد الهادي التازي، ومحمد الطنجاوي، ومحمد البوعناني، وعبد الرفيع جواهري، ومحمد الخمار الكنوني. وفي الزجل؛ بشير العلج، وأحمد الطيب العلج، وعبد القادر بنسليمان، ومصطفى أمل، ومحمد العلمي، ومصطفى بغداد.
وقد طور هؤلاء الشعراء اللغة الدارجة “العامية المغربية”، وارتقوا بها إلى مستوى لغة إبداعية جميلة تقترب كثيرا من اللغة العربية الفصحى. ومن بين أشهر القصائد؛ القمر الأحمر، الشاطئ، دنيا، الأمس القريب، موكب الخالدين، يا غزالة، يا بنت المدينة، أو مالو لو، آش داني، يا الغادي فالطوموبيل، جاري يا جاري، جريت وجاريت، على غفلة.
وخلال العام 1970، حدثت ثورة في مجال الأغنية المغربية العصرية، حيث ظهرت أول مجموعة غنائية، ويتعلق الأمر بـ “ناس الغيوان” التي ساهمت في تمثين الموسيقى المغربية التراثية وتطرقت أغاني هذه المجموعة إلى المشاكل الاجتماعية ومعاناة الطبقات الشعبية، بالإضافة إلى تطرقها إلى مواضيع سياسية، ومن أهم الأغاني التي لقيت نجاحا منقطع النظير «الشمعة» وأغنية «الصينية» و«النحلة»، وقد استلهمت المجموعة أغلب أغانيها من فن الملحون، وجعلت منه ينبوعا ترتوي من زخمه المتنوع، وإن كان هذا اللون الغنائي لقي تحفظا من عدد من المتتبعين في الوقت الذي انساقت معه الأغلبية الساحقة من المواطنين ومختلف الشرائح الاجتماعية، وسرعان ما اكتسح هذا اللون الغنائي الجديد السوق الوطنية وحتى العربية. ومن أهم عناصر هذه المجموعة الغنائية عمر السيد وبوجميع والعربي باطما ومولاي عبد العزيز الطاهري.
وفي سنة 1972 برزت للوجود مجموعة جيل جيلالة التي كان من مؤسسيها الفنان محمد الدرهم وسكينة الصفدي ومحمد السعدي.. واستطاعت هذه المجموعة أن تزاوج بين الأصالة والتراث، كما ساهمت في الانفتاح والتجديد في الغناء الصوفي، ويمكن اعتبارها من طوائف الشيخ عبد القادر الجيلالي، وقد لقي لونها الغنائي هذا إقبالا منقطع النظير في صفوف الشباب المغربي .
وأمام هذا المد الهائل من النجاح الذي لقيه ناس الغيوان وجيل جيلالة، تأسست مجموعة المشاهب سنة 1974 والتي عرفت بأغانيها الملتزمة، حيث عملت على إدخال آلات موسيقية عصرية كهربائية، كما استمدت ألحانها من موسيقى الروك الأمريكية مما جعلها تلقى نجاحا باهرا وتستقطب فئات عريضة من الشباب المغربي.
أما مجموعة لراصد، التي اشتغلت تحت اسم العشاق، فقد حاولت هذه الفرقة تبني الأغاني الملتزمة والدفاع عن القومية العربية مع استحضار هموم الإنسان ومعاناته، وقد خلفت ربيرطوارا هاما من الأغاني يضم 170 قطعة موسيقية.
لقد جاءت الأغنية المغربية العصرية بفضل هؤلاء الرواد مزيجا بين الروافد الشعبية والأندلسية والمشرقية، ونجحت في عهدها الجميل في أن في تَمَثُّلِ مختلف المشارب الفنية التقليدية والحديثة، وفي إبداع فن راق وأصيل تليق نغماته بالأذن المغربية. كما تميزت الموسيقى التقليدية باعتمادها على أساليب جديدة على غرار التأليف والتلحين والأداء.
وبعد تألق وازدهار دام زهاء أربعة عقود، أصبحت الأغنية المغربية، حالها حال الأغنية العربية عامة، تعاني من أزمة حادة خلال مطلع التسعينات، حيث بدأت بوادر العياء تظهر، وسُجل تراجع ملحوظ في الإنتاج كما وكيفا، وأعلنت بداية الانسحاب النهائي من الساحة عدد من الوجوه التي طبعت تلك الفترة الذهبية والتي غيبها الموت أو المرض أو التهميش أو النضوب الكلي و النهائي لبئر الإبداع أو كل هذه الأمور مجتمعة. والأجواق الموسيقية نفسها، بما فيها الجوق الوطني و الجوق الملكي، بدأت تندثر شيئا فشيئا إلى أن اختفت تماما.
وهكذا، أخذت الأغنية المغربية في التراجع إلى أن صارت اليوم إلى ما صارت إليه، من رداءة وتفاهة في الكلمة والإيقاع، ومن موجة الكليبات الهابطة والأغاني الخالية من الهدف والمعنى، التي أسقطت الفن الموسيقي المغربي في قاع السخافة والإسفاف. ونذكر من بينها “عطيني صاكي”، “حلوفة”، “ديكابوطابل”، “تبغي مول الشاطو”، “خاصو العصا”، وغيرها كثير.
إن هذا الانتشار الذي عم الساحة الفنية المغربية اليوم، إنما يدل على غياب المراقبة من لدن لجنة الكلمات ولجنة الألحان، حيث أصبحت هاتان اللجنتان ذكرى من الذكريات الجميلة وأيام تألق الأغنية المغربية. ولعل الفراغ الذي تركته هاتان اللجنتان اللتان كانتا تضمان أجود الزجالين والشعراء والفنانين الموسيقيين المرموقين، هو ما جعل الأغنية المغربية العصرية سرعان ما تنمحي من الذاكرة ولا تستطيع أن تتربع في قلوب المستمعين والمشاهدين ما عدا بعضها الذي يستنبط من التراث كأغنية “عندو الزين”و “اش جا يدير”، “أسميتها قمري”، “سلبت ليلى”…
كما تتحمل وزارة الثقافة وإدراة القنوات الوطنية المغربية مسؤولية فتح المجال لكل من هب ودب ليدخل إلى بيوت المغاربة بدون استئذان، ويهجن أذواق المستمعين والمشاهدين ما يساهم في تدني الذوق العام.