الأيقونة خناتة بنونة
نجيب العوفي
هي أيقونة أدبية رائدة ورائعة منذورة لكسرالصمت وإسقاط سُجُفه، ولا أجد عنوانا رمزيا جامعا مانعا وافيا شافيا، يلخص مسيرتها الأدبية الحافلة – الباسلة أو بالأحرى ملحمتها الأدبية الحافلة – الباسلة، مثل عنوان مجموعتها القصصية الرائدة (ليسقط الصمت) المنشورة في طلائع 1967.
فعلى امتداد هذه المسيرة – الملحمة الممْهورة بتاء التأنيث، كانت خناتة تنازل وتكسرالصمت الرائن الملغوم على أكثر من صعيد وفي أكثر من حلبة، في حلبة الأدب وفي حلبة الحياة الساخنة على السواء، ولاستيعاب هذه الملحمية التي اجترحتها خناتة والاقتراب منها، لا بد من وضعها في السياق التاريخي والاجتماعي الذي تحركت فيه وبزغ اسمها في مشهده، وهو السياق الذي تلا مباشرة استقلال المغرب، أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الفارط.. و قد كان المجتمع المغربي آنئذ محافظا متشبثا بتقاليده وأعرافه الموروثة لا يفتح نوافذه و كُواه للرياح الجديدة، إلا بحذر شديد، سيما في خاصّة أموره العائلية والشخصية. الأيقونة خناتة بنونة
لقد كان المجتمع المغربي، بعبارة، أبيسيا بامتياز.
وكانت المرأة المغربية ملازمة لبيت الطاعة. وقد شقت خناتة بنونة وفي فترة مبكرة عصا الطاعة فكانت رائدة للحداثة النسوية المغربية وداعية لإعادة النظر في الجندر الثقافي النسوي، فلم نعرفها إلا سافرة ناضرة المحيا منذ إطلالة صباها، مع عفة وأصالة ونبل خصال وخلال. ولمن أراد التأكد من الأمر، الرجوع إلى صورتها المثبتة على ظهر مجموعتها القصصية الأولى (ليسقط الصمت)، الصادرة في ستينيات القرن الفارط .
جرى ذلك في مجتمع مغربي كان نصفه المؤنث مُجلببا ومُلثما من شماله لجنوبه.
وما أشبه الليلة بالبارحة، بعد طوفان الحجاب الجديد، وما أكثر المفارقات المغربية العجيبة بين الأمس واليوم، بين زمن خناتة والأزمنة الحديثة. بين لباس مُسدل ونصف لباس لا يستر شيئا، يتعايشان في وئام وانسجام، لكن على صفيح ساخن.
لقد كانت خناتة بنونة سابقة لأوانها، من حيث يبدو السواد الأعظم من المجتمع المغربي هنا والآن، متأخرا عن الأوان أو متراجعا عنه، أوان الحضارة. ورحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي، كما قال الفاروق عمر بن الخطاب .
وللأمانة التاريخية نقول، إن الزعيم علال الفاسي كان سندا وحاضنا وأبا روحيا لهذه الفتاة المغربية الصاعدة الواعدة، المحلقة بجناح الطموح الحداثي خارج السرب . الأيقونة خناتة بنونة
وعلى امتداد مسارها الأدبي، ظلت الكاتبة تلهج بذكر هذا الرجل في كل محفل وناد، عرفانا وامتنانا .
منذ البدء إذن اختارت خناتة بنونة عن ثقة واختيار وسبق نية وإصرار، الانخراط في ركب الحداثة .
منذ البدء، كان شعار خناتة وصيحتها الإبداعية الجهيرة والشهيرة (ليسقط الصمت).
عنوان مجموعتها القصصية الرائدة .
ليسقط الصمت، في كل مجالات وسُوح الحياة، السياسية و الاجتماعية والثقافية، وبخاصة في المجال الحساس و الأساس لدى خناتة و بنات جيلها، مجال حرية المرأة الذي كان مسيّجا بالتقاليد والأعراف المحافظة، ويشكل تابو ومنطقة حمراء . وقد اخترقت خناتة الخطوط الحمر وانتهكت التابو الاجتماعي بكل جرأة وهمّة وثقة، تأخذها وتثبّطها في ذلك لومة لائم ولا غضبة غاضب، سواء من أهلها وآلها، أو من المجتمع المحافظ قاطبة. وهي سليلة مجتمع محافظ بامتياز.
و (ليسقط الصمت) أدبيا، هي أول مجموعة قصصية نسوية تصدر في المغرب، بعد بيَات حريمي طويل، كانت خناتة هي نجمة صبحه المضيئة، إلى جانب رفيقتها ورصيفتها رفيقة الطبيعة (زينب فهمي) التي كانت مجموعتها القصصية الأولى (رجل و امرأة) تدشينا ثانيا لهذه الريادة القصصية النسوية. وعلى مقربة منهما كانت الشاعرة مالكة العاصمي تخط بالأحرف الأولى ميلاد القصيدة المغربية النسوية . الأيقونة خناتة بنونة
واستعمالي هنا لصفة النسوية لا يعني بحال تفرقة أو تمييزا بين أدب نسوي وأدب رجالي، بقدر ما يراعي الخصوصية الطبيعية البيولوجية للجنسين بمنأى من حمولات الجندر الثقافي .
وقد كانت خناتة بنونة رائدة أدبية على أكثر من مستوى، كانت مجموع ريادات.
هي رائدة للقصة القصيرة المغربية – النسوية من خلال مجموعتها الآنفة (ليسقط الصمت).
وتجدر الإشارة إلى أن هذا العنوان، هو عنوان لوحة مسرحية قصيرة هي آخر نص في المجموعة. و بذلك تكون خناتة رائدة أيضا للمسرحية النسوية القصيرة أيضا ..
وهي رائدة للرواية المغربية النسوية، من خلال روايتها (النار والاختيار) الصادرة سنة 1969.
وتجدر الإشارة أيضا، إلى أن هذه الرواية حائزة على الجائزة الأدبية الأولى بالمغرب وقررتها وزارة التربية الوطنية على التعليم الثانوي، كما (قدمتها الكاتبة هدية لمنظمة التحرير الفلسطينية فتح، حيث بيعت في مزاد عالمي، ووصلت النسخة الواحدة آنذاك إلى مليون فرنك لصالح النضال الفلسطيني).
ولفلسطين مكانة خاصة في قلب وإبداع خناتة بنونة، حتى ليصحّ القول، إنها فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، وأدبها ومواقفها شواهد على ذلك.
وهي رائدة لأول مجلة ثقافية نسوية في المغرب، من خلال مجلتها (شروق)، التي لم تعمّر طويلا، لكنها كانت بارقة أمل للمواسم الآتية، وأول الغيث قطر.
وقد نذهب أخيرا إلى القول، بأن خناتة بنونة رائدة أيضا لقصيدة النثر المغربية، بعد الأديب المغربي الكبير محمد الصباغ، فلغتها الشفيفة – الرهيفة والأنيقة، تبوئها هذه الريادة الأدبية .
إن كثيرا من النصوص القصصية للكاتبة، تراوح بين شعرية السرد وسردية الشعر، في منزلة بين المنزلتين، بما ينزّل هذه النصوص في صميم قصيدة النثر.
هذه اللغة الشعرية – الغنائية المجنّحة، أضحت شارة لخناتة بنونة، وبصمة دالة عليها. والأسلوب طبعا، هو الشخص، كما قال بوفون.
وأشير بالمناسبة، إلى أن هذه اللغة الشعرية الغنائية والمشحونة أحيانا، تكاد تكون نغمة مشتركة في الإبداع النسوي، مغربا ومشرقا، وسمة مميزة لهذا الإبداع، نلمس ظلالا لها عند بعض رفيقات ومجايلات خناتة، كرفيقة الطبيعة وغادة السمان و ليلى بعلبكي وديزي الأمير وسميرة عزام، وبنت الشاطئ ونوال السعداوي في مرحلتيهما الإبداعية ..
هي لغة كالوشم النسوي، كالعزف بأنامل ناعمة.
وبقدر ما كانت خناتة، على مستوى المتن السردي، مهمومة بالهاجس الذاتي الخاص، كأنثى متمردة على الصمت ساعية إلى الخروج من شرانقه، كانت مهمومة أيضا وعطفا بالهاجس الاجتماعي – الوطني، و الهاجس القومي – العربي .
وكانت فلسطين باستمرار، في السويداء من قلبها ومن أدبها.
ذلك ما يتبدّى جليّا وبهيا في مجموع أعمالها القصصية والروائية والسيرية: ليسقط الصمت – النار والاختيار – الصورة والصوت- العاصفة – الغد والغضب – الصمت الناطق – الحب الرسمي- ذاكرة قلم ..
وبعد /
ليس من السهل استيفاء الحديث عن مآتي و مناقب خناتة بنونة، في مقال وجيز ومقام محدد. وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
ومن خلال هذه الملامح والخطوط العريضة التي اقتضبْتها اقتضابا عن مسار خناتة الحافل بالفتوحات والمكرمات، يبدو جليا وبهيا أنها مبدعة ومناضلة في آن، تجمع في قرن واحد بين هموم وشجون الإبداع الأدبي، وهموم وشجون النضال الاجتماعي والوطني والقومي، مقدّمة بذلك أمثولة رائعة للمثقفة المناضلة الملتزمة المُهتدية بالمبدأ والقضية والرسالة . هذا درس تقرع به خناتة آذان الأجيال من الكُتّاب والكاتبات، ولا بدع في الأمر، فهي سليلة ووريثة الحركة الوطنية المغربية، من بيضتها خرجت وفي عشها درجت.
لذلك ولسوى ذلك، سيبقى اسم خناتة بنونة واسطة بهية وشرفية في عقد الكاتبات والمبدعات المغربيات، بل في عقد أدبنا المغربي المعاصر بعامة، لا فرق بين حالاته المدنية .
السيدة الأيقونة خناتة بنونة/
أيتها الرائدة – الرائعة،
لك دوام البهاء ..
الأيقونة خناتة بنونة
الأيقونة خناتة بنونة
ألقيت هذه الشهادة في حفل الإعلان عن مُؤَسسة تحمل اسم الأديبة خناتة بنونة تُعْنى بالبحث العلمي، وذلك يوم الأربعاء 25 ماي بالمكتبة الوطنية بالرباط.
الأيقونة خناتة بنونة