“ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حقٌّ في الخلود: فرط الإعجاب من محبيه ومريديه؛ وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه؛ وجوٌّ من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون..، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتارة إلى السحر والكهانة”؛ هذه هي ثلاثيّة الخلود التي وضع قانونها عباس العقّاد (ت 1384هـ/1964م) في كتابه ‘رجعة أبي العلاء المعري‘، ونراها نحن مجتمعة في الشخصية التي جعلناها موضوع مقالتنا هذه: الحسين بن منصور الحلاج الفارسي (ت 309هـ/922م).
وقصدنا في هذا المقال أن نكشف عن حال الحلاج، ونجعل لقارئ سيرته نهجا في شأنه يسير عليه بحيث لا يشكل عليه اختلاف الناس ولا تباين أقوالهم وآرائهم في أبي منصور. وحاصل مقالتنا أن الحلاج صوفي سُنِّي، وقائد لحركة سياسية سرية، تروم خلع بني العباس ونقض خلافتهم. وسنبدأ بذكر اختلاف الآراء فيه، ثم نعرّج على معتقده وسبب اضطراب الناس فيه، ثم نلقي نظرة على حياته السياسية والإشكال الذي طرأ للناس في فهم حركته ومراسلاته.
تصور مشوش
غلا المنكرون على الحلاج حتى كفّره طائفة من العلماء في عصره وقالوا: “قُـتِـل الحلاجُ بسيف الشرع على الزندقة”، وألّف في “زندقته” أعلام مثل الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) –وهو صاحب العبارة المتقدمة- الذي يقول عن الحلاج “جمعتُ بلاياه في جزأين”. وقبله صنّف ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) ‘القاطع لمِحال اللِّجاج القاطع بمُحال الحلاج‘؛ ثم جاء في عصرنا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (ت 1382هـ/1962م) فجعله مسيحًا ثانيًا بعد النبي عيسى بن مريم عليه السلام.
وقد روت كتبُ الطبقات عن الحلاج خوارق يحار فيها الذهن حتى صيّره بعضهم “إلهًا”، ونُسبت إليه أحوال وأقوال غامضة توارت حقيقتها حتى عن أهل بيته؛ يقول ابنه حمد بن الحلاج: “ثم دعا الناس لشيء لم أقف على حقيقة أمره”؛ كما روى ابن باكَوَيْه الشيرازي (ت 428هـ/1038م)، والأخير لعله أول من أفرد للحلاج تأليفًا يضم ترجمته وأخباره، وقد وصف الذهبي ابن باكويه هذا بأنه “الإمام الصالح المحدث شيخ الصوفية”.
لقد كان الحلاج طِلَسْمًا من طلاسم تراثنا وشخصية جدّ محيّرة لدارسيه، ولا نجد نصًا يحكي هذه الحيرة في أمره كنص للذهبي أورده في ترجمته، يعرض فيه الاحتمالات الثلاثة لموقف الناس منه، مع ميله هو إلى إثبات زندقته.
يقول الذهبي: “فتدبر -يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة ودعاة الزندقة، وأنصف وتورّع…؛ فإن تَبَرْهَنَ لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدوّ للإسلام، محبّ للرئاسة حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته؛ وإن تبرهن لك -والعياذ بالله- أنه كان… محقًّا هاديا مهديا، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق…؛ وإن شككت ولم تعرف حقيقته وتبرأت مما رُمي به أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلا”.
والذهبي عندنا متهمٌ عموما على الشخصيات الجدلية من أهل التصوّف. فمع وضعه لقاعدة ذهبيّة في حال المختلَف فيهم؛ فإنه لم تطب نفسه بالترحم على الحلاج والاستغفار له، وتجاهل ما سطره -قُبيل نصه السابق بسطرين- حيث يقول: “إن مَن كان طائفة مِن الأمة تضلله، وطائفة من الأمة تُثني عليه وتبجله، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه؛ فهو ممن ينبغي أن يُعرَض عنه، وأن يفوَّض أمرُه إلى الله، وأن يستغفَر له في الجملة، لأن إسلامه أصلي بيقين وضلاله مشكوك فيه؛ فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغلّ للمؤمنين”.
شواهد تزكية
الحلاجُ صوفيّ سُنيّ، ومن زعم أنه صوفي حلوليّ أو من متصوفة الفلاسفة أو قرمطي فقد أخطأ وأبعد التأويل، وأغفل الأدلة الواضحة؛ هذه هي الدعوى التي نقيمها هنا ونستدل لها من وجوه عدة:
أولها: مصادر تصوّفه؛ فهي مصادر سُنيّة لا خلاف في سنيّتها بشهادة الذهبي نفسه. فأول شيخ تتلمذ عليه كان سهل بن عبد الله التستري (ت 283هـ/896م)؛ قال عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘: “شيخ العارفين.. الصوفي الزاهد..، له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، وقدم راسخـ[ـة] في الطريق”. ثم تتلمذ على عمرو بن عثمان المكي (ت نحو 300هـ/912م) الذي وصفه الذهبي بأنه: “الإمام الرباني شيخ الصوفية أبو عبد الله المكي الزاهد”. كما كان من شيوخ الحلاج أبو القاسم الجنيد البغدادي (ت 298هـ/911م) المعروف مقامه في التصوف السنيّ.
ومن مشايخه أيضا أبو الحسن النوري (ت 295هـ/908م) الذي قال عنه الذهبي في ‘السِّيَر‘: “شيخ الطائفة بالعراق، وأحذقهم بلطائف الحقائق، وله عبارات دقيقة يتعلق بها من انحرف من الصوفية”. وقد قُبض على النوري في زمن الخليفة المعتضد (ت 289هـ/902م) بتهمة الزندقة، فلما عُرض النوري على قاضي القضاة إسماعيل بن إسحق المالكي (ت 282هـ/895م) وناقشه، قال القاضي: إن كان هؤلاء القوم زنادقة فليس في الأرض موَّحِّد”!! ونحن نعلم أن الزندقة كانت -في أغلب الأحيان- تهمة جاهزة في خزانة السلطة ترمي بها كل معارض لها، وهو ما سيتضح لنا من سيرة الحلاج أيضا.
ثانيها: صحة عقيدة المزكِّين للحلاج وسنّيتهم. ووفقا للذهبي؛ فقد “قال السلمي (النيسابوري مؤلف ‘طبقات الصوفية‘ المتوفى سنة 412هـ/1022م): “أكثر المشايخ ردّوا الحلاج ونفوْه، وأبوْا أن يكون له قَدَم في التصوف، وقَبِـلَهُ ابنُ عطاء (ت 309هـ/922م)، وابنُ خفيف (ت 371هـ/982م)، والنصرآباذي (ت 367هـ/978م)”. فمَن هم هؤلاء المشايخ الذين قبلوا الحلاج في صفوف أئمة التصوف ورفضوا اتهامه بالزندقة والكفر؟ إليك تراجمهم لدى أئمة المحدّثين وأولهم الذهبي نفسه:
فأولهم ذِكْراً ووفاةً هو أبو العباس ابن عطاء البغدادي الذي انتقد عليه الذهبي دفاعه عن الحلاج، لكنه مع ذلك وصفه بأنه “الزاهد العابد المتأله”. وحسب الذهبي؛ فإن ابن عطاء “امتُحن بسبب الحلاج” فكانت وفاته بسبب تعذيب السلطات إياه عقوبةً له على دعمه للحلاج. بل إن الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) يقول في ‘تاريخ بغداد‘: “سُئِل ابنُ عطاء عن مقالة الحلاج فقال بمقالته، فكان [ذلك] سبب قتله”!
وثانيهم ابن خفيف؛ وهو محمد بن خفيف الضبي الشيرازي الشافعي شيخ ابن باكويه الذي قدمنا أنه أول من خصص كتابا لترجمة الحلاج. وقد نقل ابن عساكر –في كتابه ‘تبيين كذب المفتري‘- عن السلمي أنه وصف ابن خفيف فقال: “هو اليوم شيخ المشايخ..، لم يبقَ للقوم أقدم منه سنًّا ولا أتمّ حالًا ووقتًا…، ولقي الحسين بن منصور (= الحلاج)، وهو من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر متمسكًا بعلوم الشريعة من الكتاب والسنة”.
ووصف الذهبيُّ ابن خفيف في ‘السِّير‘ بأنه: “الشيخ الإمام العارف الفقيه القدوة.. ذو الفنون.. شيخ الصوفية”، وأنه “جمع بين العلم والعمل وعلو السند والتمسك بالسنن، ومُتّع بطول العمر في الطاعة”. أما السبكي فيقول عنه -في ‘طبقات الشافعية‘: “بلغ ما لم يبلغه أحد من الخلق في العلم والجاه عند الخاص والعام، وصار أوحد زمانه مقصودًا من الآفاق..، مباركًا على من يقصده”.
دفاع مستميت
فمتى علمتَ حال ابن خفيف هذا فقد لزمك أن تعرف رأيه في الحلاج الذي التقى به؛ فقد قال عنه: “رجلٌ من المسلمين، إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيدًا فليس في الدنيا توحيد”!! وقد ذكر الجنيد الحلاجَ بسوء في مجلسه -وسنبين لك فيما يأتي سبب تحول الجنيد من موقع الأستاذ للحلاج إلى موقع الذامّ له- فانبرى له ابنُ خفيف يدافع عن الحلاج، ويقول: “يا شيخ لا تطوّل! ليس إجابة الدعاء والإخبار عن الأسرار من النيرنجات (= نوع من حركات الخفة والحِيل شبيه بالسحر) والشعبذة والسحر”.
وعند ابن كثير في ‘البداية والنهاية‘: “أنشِد لأبي عبد الله ابن خفيف قولُ الحلاج:
سبحان من أظهر ناسُوتِه ** سِرَّ سَنَا لاهُوتِه الثاقبِ
ثم بدا في خلقه ظاهرا ** في صورة الآكِل والشاربِ
حتى لقد عاينه خلقُه ** كلحظةِ الحاجب بالحاجب
فقال ابن خفيف: على مَن يقول هذا لعنة الله! فقيل له: إن هذا من شعر الحلاج، فقال: قد يكون مَقُولاً عليه”!!
وثالث الثلاثة المزكين للحلاج: النصراباذي؛ وهو أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي الذي قال في معرض دفاعه عن الحلاج: “إن كان بعد الصدّيقين موحدٌ فـ[هو] الحلاج”؛ وفقا لما نقله عنه السلمي النيسابوري في ‘طبقات الصوفية‘. وقد وصف هناك النصراباذي بأنه “كان شيخ الصوفية بنيسابور، له لسان الإشارة مقرونا بالكتاب والسنة”. وقال الذهبي عن النصراباذي إنه “الإمام المحدِّث القدوة الواعظ شيخ الصوفية”.
وممن زكّى الحلاجَ أيضا: أبو العباس ابن سُريج (ت 306هـ/919م) شيخ الشافعية ببغداد الذي كان يُلقَّب “الشافعي الصغير”؛ كما قال السبكي في ‘طبقات الشافعية‘. وحال ابن سُريج ومكانته في أهل السنة أشهر من أن يُستدل لها. فقد رفض ابن سريج الانخراط في الحملة المبكرة التي قادها الإمام أبو بكر محمد بن داود الأصبهاني الظاهري (ت 297هـ/900م) لإقناع السلطات بكفر الحلاج ووجوب قتله، وهو ما يدل عليه نقلُ الذهبي –في ‘السير‘- لقول “السلمي: سمعت علي بن سعيد الواسطي بالكوفة يقول: ما تجرّد أحد على الحلاج وحمل السلطان على قتله كما تجرد له ابن داود”!
وأورد ابن زنجي (ت 334هـ/945م) -في رسالته ‘ذكر مقتل الحلاج‘- شهادة ابن سريج في الحلاج على النحو التالي: قال “الواسطي: قلتُ لابن سريج: ما تقول في الحلاج؟ قال: أما أنا فأراه حافظًا للقرآن عالمًا به، ماهرًا في الفقه، عالمًا بالحديث والأخبار والسنن، صائمًا الدهر، قائمًا الليل، يعظ ويبكي، ويتكلم بكلام لا أفهمه؛ فلا أحكم بكفره”. وأفاد ابن الوردي المعري الكندي (ت 749هـ/1348م) في تاريخه بـ”أن أبا العباس بن سريج قال عنه (= الحلاج): هذا رجل خفي علي حاله وما أقول فيه شيئا”.
تأييد حنبلي
ثالثًا: المترجِمون له: لعل أبا عبد الرحمن السلمي -في ‘طبقات الصوفية‘- وابن باكويه هما أول من ترجم لأبي منصور الحلاج. أما ترجمة السلمي في طبقاته فتخلو من كل ما يوجب الحكم عليه بالزندقة والتكفير، كما تخلو من حكاية الخوارق والكرامات، ولم يذكر سوى اختلاف أهل التصوف فيه على النحو الذي ذكرناه سابقا.
وأما ابن باكويه فسنده عالٍ في الحكاية عن الحلاج، إذ ينقل حياته من رواية ابنه حمد. وهي رواية خاليةٌ من الخوارق والكرامات، ولو وُجدت تلك الخوارق -التي تغصّ بها كتب التراجم المتأخرة- لكان الولد أحرص الناس على ذكر كرامات أبيه. ثم نجد الأمر فيمن بعدهم تطغى عليه نزعة الأسْطَرَة، أو التكفير والنسبة إلى الحلول والاتحاد.
رابعًا: كلامه هو عن نفسه: فقد أورد ابن الساعي (ت 674هـ/1275م) -في كتابه ‘أخبار الحلاج‘- نقلا عن تلميذ الحلاج أحمد بن فاتك الصوفي أن الحلاج كان يقول: “من ظن أن الإلهية تمتزج بالبشرية أو البشرية بالإلهية فقد كفر”. وقال:
أنا سِرُّ الحق! ما الحقُ أنا ** بل أنا حقٌ ففرِّق بيننا
وقال في مجلس محاكمته: “ظهري حِمَى، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، فالله الله في دمي”!!
خامسًا: كلام من اتصل به من الأتباع عن صحة اعتقاده؛ فقد جاء في ‘أخبار الحلاج‘ أيضا قول إبراهيم الحلواني: “خدمت الحلاج عشر سنين، وكنت من أقرب الناس إليه. ومن كثرة ما سمعت الناس يقعون فيه، ويقولون إنه زنديق توهمت في نفسي، فاختبرته: فقلت له يومًا يا شيخ أريد أن أعلم شيئًا من مذهب الباطن! فقال….: يا بُني! أذكر لك شيئًا من تحقيقي ظاهر الشريعة: ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة، وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشده، وأنا الآن على ذلك”. كما نجد أن أبا القاسم القشيري (ت 465هـ/1073م) -وهو إمام عمدة لدى أهل التسنن- ينقل في رسالته ‘القشيرية‘ نصًا طويلا للحلاج في توحيد الله.
وبعد مقتل الحلاج بقرن ونصف؛ وجدنا أئمة كبارا يدافعون عن الحلاج حتى من داخل المذهب الحنبلي؛ فهذا الإمام ابن عقيل الحنبلي “صنّف في مدح الحلاج جزءا في زمان شبابه تأول فيه أقواله وفسّر أشعاره واعتذر له”؛ وفقا لما قاله سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ‘مرآة الزمان‘. بل إن ابن عقيل نفسه اعترف بتأييده للحلاج وإن “تراجع” عن ذلك حين “استتابته” السلطة العباسية بضغط من زملائه في المذهب الحنبلي.
فقد جاء في وثيقة هذه “الاستتابة” -التي حفظ لنا نصَّها ابنُ الجوزي في ‘المنتظم‘ نقلا عن خط ابن عقيل- قولُ الأخير: “واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات، ونصرتُ ذلك في جزء عملته، وأنا تائب إلى الله تعالى منه، وأنه قُـتِل بإجماع فقهاء عصره، وأصابوا في ذلك وأخطأ هو”. مع أن نص ابن عقيل هذا –حتى وإن سلمنا بصدوره منه بدون إكراه- لا يتضمن حكما بالزندقة أو الكفر على الحلاج وإنما يصفه فقط بأنه “أخطأ”.
أسباب الاضطراب
فإن قلت لي: لماذا وقع الاضطراب في حال الرجل.. والأمر كما تذكره من سنيته؟! قلتُ لك إن ذلك يعود إلى أن الحلاج اكتنف حياتَه غموضان: صوفي وسياسيّ؛ ومتى أدركتَ حقيقة هذين الغموضين فاعلم أن أكثر ما رُوي عن الحلاج -واستشكله العلماء- خارج من هذين البابين.
أما الغموض الأول فلكون الحلاج رجلا من الصوفيّة كان يقع له من الأحوال والكشوف ما لا يحسن التعبير عنه ونقله إلى لغة الناس المفهومة لهم، فكشوف أهل التصوف ومشاهداتهم -في حال ما يصفونه هم بـ”الفناء وتجلي الحق”- تدقّ عن الوصف، فمتى عبّر الإنسان عنها بلغة البشر المستمدة من عالمهم “وشطح” وقع في إشكال، ولذلك قال ابن خلدون -في مبحث التصوف من كتابه ‘المقدمة‘- إن “العبارة عن المواجِد صعبة لفقدان الوضع [اللغوي] لها”.
ولا سيما حديث الصوفية عن أحوال “الفناء وتجلي الحق” التي يصفها ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في ‘مدارج السالكين‘ بقوله: “الفناء الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه: أن تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في أفق العدم كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضًا، فلا يبقى له صورةٌ ولا رسمٌ، ثم يغيب شهوده أيضًا فلا يبقى له شهودٌ، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه، كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات، وحقيقته أن يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل”.
ويصف شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) -في مجموع رسائله- هذه الحال فيقول: “وقد يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام (= فقْد الإدراك بسبب الجذب الصوفي) والسُّكْر -بقوة استيلاء الوجد والذكر عليه- من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره”. وبهذا أيضا اعتذر أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) -في بعض كتبه مثل ‘مشكاة الأنوار‘- للحلاج في تعبيره عن حال الفناء: “فمن حقق من الصوفية وعلم وقوف الأشياء عليه [أي الله عز وجل]، وأن الأمور لا قوام لها دونه؛ قال: ما في الجبة إلا الله، وقال: أنا الحق مبالغةً في التوحيد”. فكلام الصوفيّ إذن عن تلك الأحوال -بلغة الناس العادية- يوجب التهمة له عند العوام.
أما الغموض الثاني فهو الغموض الذي تفرضه طبيعة الحركات السرية السياسيّة؛ ونحن نرى أن الحلاج كان مما يمكن تسميته ‘تيار الصوفية السياسيّة‘، الذي يروم أصحابه انتزاع الحكم من بني العباس ورده إلى آل عليّ ابتداءً، ثم صار لاحقا يدعو إلى نفسه. والعمل السرّي يستلزم بعض الغموض في التحركات والمراسلات والترميز الذي لا يفهمه إلا المنتسبون إلى حركاته.
دعاية سوداء
لقد تتبعنا الروايات التي تقدح في الحلاج ويُطعن عليه بها فوجدنا أكثرها يدور على خصوم له. وقد تعدد هؤلاء الخصوم؛ فمنهم مَن كان موظفًا عند الدولة التي ثار عليها الحلاج فروايتهم عنه من باب “الدعاية السوداء”. ومن هؤلاء أبو القاسم التنوخي (ت 342هـ/953م) والصولي (ت 335هـ/946م) وعمرو بن عثمان المكي؛ وهذا الأخير تولى قضاء جدة فصار موظفًا للدولة بعد إذ كان شيخًا للحلاج، وكان يكتب إلى الأمصار بتكفير الحلاج.
وبعضهم غاظهم تصدُّر الحلاج واشتهاره حين “وقع له عند الناس قبول عظيم حتى حسده جميع مَن في وقته”؛ كما يقول ابنه حمد. ومن هذه الفئة أبو يعقوب النهرجوري (ت 330هـ/942م) الذي يحكي حمد بن الحلاج سبب حسده لأبيه؛ فيقول: “وخرج [الحلاج] ثانيًا إلى مكة ولبس المرقّعة والفُوطة، وخرج معه في تلك السفرة خلق كثير [من أتباعه]، وحسده أبو يعقوب النهرجوري فتكلم فيه بما تكلم”!
ومن هؤلاء أيضا الجنيد البغدادي الذي كان شيخ الطائفة الصوفية. ولا ينبغي لنا أن نغفل عن غريزة التحاسد بين العلماء والمشايخ، ولنتذكر القاعدة الذهبية التي أهداها إلينا إمام الواعظين ابن الجوزي بقوله في ‘صيد الخاطر‘: “فإذا رآك من يعتقدك مِثْلا له -وقد ارتقيت عليه- فلا بد أن يتأثر، وربما حسد؛ فإن إخوة يوسف عليهم السلام من هذا الجنس”!!
والجنيد -في تقديرنا- أنه كان على هرم تنظيم التصوف السياسي، وكان الحلاج من أتباع هذا التنظيم بادئ الأمر؛ فقد كان يتلقى الأوامر من الجنيد في تدبير أحواله. يحكي لنا حمد بن الحلاج فيما يرويه عنه ابن باكويه: “ثم اختلف والدي إلى الجنيد بن محمد، وعرض عليه ما فيه من الأذيّة لأجل ما جرى بين أبي يعقوب [النهرجوري] وبين عمرو [المكي]، فأمره بالسكوت والمراعاة؛ فصبر” الحلاج امتثالا لكلام شيخه.
ثم بعد عودة الحلاج من مكة ازداد أتباعه وعظم نفوذه، ويبدو أنه كان متهورًا وأكثر جرأة من خط الجنيد المؤْثِر للسريّة والبطء. فلما رآه الجنيد ذا أتباع وميل إلى الرئاسة اتهمه بالادعاء وتنكّر له، فاستقل الحلاج بنفسه. قال حمد ابنه: “ورجع إلى بغداد مع جماعة من الفقراء الصوفية، فقصد الجنيد بن محمد وسأله مسألة فلم يجبه، ونسبه إلى أنه مدّعٍ فيما سأله، فاستوحش وأخذ والدتي ورجع إلى تُسْتَر (= مدينة تقع الآن غربي إيران)”. وهناك في تستر عظُم أمر الحلاج وتمددت قاعدته الشعبية.
حركية سياسية
كان للصوفية –خلال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري- مزاجٌ عَلَويٌ واضح، وهذا عائد لأمرين اثنين؛ أولًا: سندهم العلميّ -أو إن شئت الطُّرُقي- الذي يذهبون به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وإسنادهم هذا -فيما يذكرونه- يدور على الجنيد الذي هو شيخ الطائفة ورئيس الحركة السريّة فيما نظن نحن؛ فقد أخذ الجنيد الطريقة عن سري السقطي (ت 253هـ/867م) عن معروف الكرخي (ت 200هـ/815م) عن داود الطائي (ت 162هـ/779م) عن حبيب العجمي (ت 119هـ/738م) عن الحسن البصري (ت 110هـ/729م) عن علي رضي الله عنه. وقد أخذ أبو بكر الشبلي (ت 334هـ/945م) عن الجنيد، وعن الشبلي أخذ أبو القاسم النصراباذي، كما صحب الحلاجُ الجنيدَ وتتلمذ عليه.
وثانيًا: أن جُلّ هذه المجموعة من المتصوفة من عَجَم خراسان، وهم –كما هو معروف- النواة الصلبة التي قامت عليها الدعوة لآل البيت وبهم تأسست الدولة العباسية. وقد كان الحلاج من ضمن هذه الحركة السياسية، بيد أنه رأى لنفسه قبولًا واشتهارًا فتجاوز التراتبية الحركية، وهذا الذي أغضب عليه شيخَه الجنيد فيما سقناه من خبر اختلافهما بعد عودته من مكة التي دخلها ومعه “أربعمئة رجل” من أتباعه؛ وفقا لرواية الذهبي.
كما أن من دلائل حركية الجنيد السياسية أنه كان يقاطع المسؤولين الذي يعملون لدى الحكومة العباسية، وهذا ما حصل له مع عمرو بن عثمان المكي بعد أن ولي قضاء جدة، فتنكّر له الجنيد؛ حسبما يقول الذهبي في ‘السير‘. وليس قولنا بالحركيّة السياسيّة للحلاج من عندِيّاتنا، بل هو أمرٌ اشتهر عنه لدى المتقدمين، وأشار إليه أعلامٌ منهم مثل معاصره “شيخ الصوفية” إبراهيم بن شيبان (ت 337هـ/948م)، والنديم صاحب ‘الفهرست‘ (ت 384هـ/995م)، وإمام الحرمين الجويني (ت 478هـ/1085م).
قال إمام الحرمين -فيما رواه عنه ابن الجوزي في ‘صيد الخاطر‘ ثم نقله ابن خلكان (ت 681هـ/1282م) في ‘وفيات الأعيان‘- إنه “ذكرت طائفة من الثقات المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلاج والجنابي القرمطي (= أبو سعيد الجنابي المقتول 301هـ/913م) وابن المقنع (أراد ‘المقنع‘ أو ‘البرقعي‘ وهما من ألقاب علي بن محمد البصري قائد ثورة الزنج بالعراق المقتول 270هـ/883م) تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة، واستعطاف القلوب واستمالتها. وارتاد كل واحد منهم قُطْراً: […] وارتاد الحلاج قُطْرَ بغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن درك الأمنية لبعد أهل العراق عن الانخداع”!!
وقال النديم -في ‘الفهرست‘- إن الحلاج “كان يُظهر دين الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة… يتحلى ألفاظهم ويدعي كل علم.. وكان مقدامًا متهورًا جسورًا على السلاطين، مرتكبًا للعظائم ويروم انقلاب الدول”. وأضاف النديم أن الحلاج “في أول أمره كان يدعو إلى الرضا من آل محمد فسُعِي به وأُخِذ بالجبل (= منطقة بإيران) فضُرب بالسوط”. وقال إبراهيم بن شيبان كما في ‘أخبار الحلاج‘ لابن الساعي: “إياكم والدعوى! ومن أراد أن ينظر إلى ثمرات الدعوى فلينظر إلى الحلاج وما جرى عليه”!!
وقد كانت الخلية الثورية -التي نبذها أهل التصوف من أتباع الجنيد وابتعد عنها أبو بكر الشبلي الذي كان يقول: “كنت أنا والحسين بن منصور (= الحلاج) شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمتُ”- تتكون من الحلاج رئيسا للحركة، ونائبه أبي العباس بن عطاء الذي كان صلبًا في مساندته للحلاج حتى قُـتِل بسببها؛ كما تقدم ذكره.
هذا إضافة إلى أبي القاسم النصراباذي المتقدم ذكره والذي كان له سجل ثوري ونضالي ضد الدولة العباسية، حيث يقول السلمي في ‘طبقات الصوفية‘: “ومع عِظَم محلّه؛ كم من مرة قد ضُرب وأهين وكم حبس؟!”. ومن هذه الخلية كذلك محمد بن خفيف المتقدم ذكره أيضا والذي كان من أبناء الأمراء كما يقول الذهبي، وقد زاره مرة في السجن فقال له الحلاج “قل لأبي العباس ابن عطاء احتفظ بتلك الرقاع”؛ يعني المراسلات السرية التي كانت تدور بينهما، وسيأتي بعض القول بشأنها.
بل إن الحلاج استطاع أن يصل بتنظيمه إلى الدائرة القريبة من رأس السلطة، فقد استقطب لعضويته بعض كبار موظفي بلاط الخليفة العباسي المقتدر بالله (ت 320هـ/933م)، حتى اكتشف وزيره حامد بن العباس الخراساني (ت 311هـ/924م) “أنه (= الحلاج) قدّموه على جماعة من الخدم والحشم وأصحاب المقتدر، وعلى خدم نصر الحاجب، وحمد بن محمد الكاتب”؛ كما يقول سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘ والذهبي في ‘العِـبَر‘.
جوَلان بالبلدان
أخذ الحلاج يطوف البلدان ويجمع الأتباع لدعوته السرية، وكان أكثر تحركاته في بلاد خراسان وما وراء النهر ولم يتخيّر بلاد العرب، وهذا يتفق مما ذكرناه من ميل عجم خراسان إلى الدعوة لآل البيت حتى كانوا هم وقودها. كما أنه كان يجتاز بالبحرين في طريقه إلى مكة لتنسيق تحركاته مع القرامطة، ومما يؤيد ذلك أنه لما اعتقلت السلطات الحلاج سنة 301هـ/914م “نودِي عليه: هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه!”؛ حسبما يرويه سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘.
ونحن نقرر أنه كان هناك تنسيق بين الحركات السرية العلوية خاصة ذات الطابع الصوفي؛ فقد كانت بداية القرامطة حركة رجل متصوف فيما يحكيه ابن الأثير (ت 630هـ/1232م) -في تاريخه ‘الكامل‘- حيث يقول: “في هذه السنة (= 278هـ/892م) تحرك قوم بسواد الكوفة يُعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرهم -فيما ذُكر- أن رجلاً منهم… [كان] يُظهر الزهد والتقشف…، فأقام على ذلك مدة… حتى فشا ذلك [عنه] بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من آل بيت الرسول، فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير”.
وإذن يتضح لنا أن أسفار الحلاج إلى مكة واجتيازه بالبحرين –التي كانت حينها تحت سيطرة القرامطة- دليل على التعاون السياسي الذي حصل بين الطرفين، وربما مع حركة الفاطميين في المغرب الإسلامي عبر صلاتها المعروفة حينها مع القرامطة رغم انفصال الحركتين تنظيميا. ونحن نؤكد هنا أن التنسيق الحركي بين هذه الحركات السياسية لا يقتضي بالضرورة تقاربًا فكريًا بينها وإنما تكفي فيه وحدة الهدف السياسي. اعلان
لقد كان الحلاج –خلال تحركاته الواسعة تلك- يغيّر “اسمه الحركي” كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي –في تاريخه- رواية عن حمد بن الحلاج: “ولم يزل عمرو بن عثمان [المكي] يكتب الكتب في بابه إلى خوزستان ويتكلم فيه بالعظائم حتى حرِد ورمى ثياب الصوفية، ولبس قَبَاءً وأخذ في صحبة أبناء الدنيا، ثم خرج وغاب عنا خمس سنين إلى خراسان وما وراء النهر، ودخل سجستان وكرمان، ثم رجع إلى فارس فأخذ يتكلم على الناس، ويدعو الخلقَ إلى الله تعالى، وكان يعرف بأبي عبد الله الزاهد، وصنّف لهم تصانيف”.
ثم يضيف أنه “لما رجع [إلى العراق] كانوا يكاتبونه من الهند بـ‘المُغيث‘، ومن بلاد ماصين (كذا في المصادر ولعلها: الصين) وتركستان بـ‘المُقيت‘ (= المُطعِم)، ومن خراسان بـ‘المميّز‘، ومن فارس بـ‘أبي عبد الله الزاهد‘، ومن خوزستان بـ‘الشيخ حلّاج الأسرار‘ (أي كاشفها)، وكان ببغداد قوم يسمّونه ‘المصطلم‘ (= المسلوب الإدراك بسبب الجذب الصوفي)، وبالبصرة قوم يسمونه ‘المجير‘”.
ويفيدنا الخطيب أيضا بأن الحلاج كان دائم التغيير لنوع ملابسه: “وكان بالأوقات يلبس المسوح، وبالأوقات يمشي بخرقتيْ مصبغ، ويلبس بالأوقات الدراعة والعمامة، ويمشي بالقباء أيضا على [هيئة] زيّ الجند”. وأما الذهبي فيسجل –في كتابه ‘العِبر‘- تقلب خطابه طبقا لطبيعة سكان كل بلاد “فإذا علم أن أهل بلد يرون الاعتزال صار معتزليا، أو يرون التشيع تشيّع، أو يرون التسنّن تسنّن”. فهذه النصوص تدل على نشاط الحلاج في جمعه وتأجيجه ضد الدولة العباسية، كما أن اختلاف ألبسته وألقابه وتنوع خطابه يدل على شمول حركته للبعدين العسكريّ والمدنيّ ولكل طبقات الناس.
مراسلات مشفرة
وهنا نصل إلى باب كثر فيه الخلط والغلط على أبي منصور الحلاج فقاد إلى نسبته إلى الإلحاد والزندقة والحلول، وهو -في اعتقادنا- بعيد من ذلك. فقد تحدث سبط ابن الجوزي –في ‘مرآة الزمان‘- عن “رقاع وُجدت في منزل الحلاج فيها رموز”، كما كانت له لغة خاصة “مرموزة” (= مشفّرة) في مراسلاته مع أتباعه، وحمْلُ هذه اللغة على ظاهرها يوقع في سوء فهم وتخليط عظيمين.
وقد ظفرنا بنصوص تشير إلى هذا المعنى منها ما أورده التنوخي الابن (ت 384هـ/995م) في ‘نشوار المحاضرة‘ من قوله: “كان في الكتب الموجودة (= رسائل للحلاج) عجائب من مكاتباته [إلى] أصحابه النافذين إلى النواحي، وتوصيتهم بما يدعون الناس إليه، وما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى أخرى ومرتبة إلى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى، وأن يخاطبوا كل قوم على حسب عقولهم وأفهامهم، وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم، وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة لا يعرفها إلا مَن كَتبها ومَن كُتبت إليه…، وفي بعضها صورة فيها اسم الله تعالى مكتوب على تعويج، وفي داخل ذلك التعويج مكتوبٌ: ‘علي عليه السلام‘؛ كتابة لا يقف عليها إلا من تأملها”.
وينقل ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- عن السلمي بسنده عن شيخ الصوفية أبي بكر ابن ممشاذ الدينَوَري الزاهد (ت 350هـ/962م) قال: “حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة، فما كان يفارقها بالليل ولا بالنهار (يبدو أنه أحد أتباع الحلاج يحمل مراسلات سريّة)، ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابًا (= رسالة) عنوانه: ‘من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان‘، فبُعث به إلى بغداد، فسُئل الحلاج عن ذلك فأقرّ أنه كَتَبه، فقالوا له كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الألوهية والربوبية! فقال: لا، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله، وأنا واليد آلة”! فذهب بهم جدلا إلى المماحكة الكلاميّة، وحمل المعنى على قول مذهب الجبريّة من أن الفاعل هو الله.
فإن هالك استخدام هذه الألفاظ الشريفة من أسماء الله الحسنى للتعبير عن غرض سياسيّ؛ فقد وجدنا قاموسًا لـ”فكّ” رموز الرسائل السرية في قصة محمد بن علي الشَّلْمَغاني (ت 323هـ/936م) المعروف بـ‘ابن أبي العَزَاقِر‘، وهو أحد الشيعة الثوريين الذين خرجوا بعد مقتل الحلاج على دولة بني العباس. حيث يحكي لنا ابن الأثير بعض اصطلاحاتهم “العقدية” الظاهر و”الحركية” الباطن، وذلك بناء على ما تم العثور عليه من مكاتباتهم؛ وهو ما قد يفيدنا في قراءة بعض رسائل الحلاج وفهم أشعاره.
يقول ابن الأثير إن من اعتقادهم “أن الله خلقَ الأضداد لتدل على المضدود (= التعبير عن اللفظ وإرادة ضده)… وأن الله اسم لمعنى، وأن من احتاج الناس إليه فهو إله (= تحويل لفظ ‘الإله‘ من مصطلح كلامي/ عقدي إلى لفظ رمزي/ تنظيمي)، ولهذا المعنى يستوجب كل أحد أن يُسمَّى إلهاً؛ وأن كل أحد من أشياعه يقول: إنه ربّ لمن هو.. دون درجته (= تشفير في الخطابات السريّة الداخلية بين أعضاء التنظيم)، وأن الرجل منهم يقول: أنا ربّ لفلان وفلان ربُّ ربِّي، حتى يقع الانتهاء إلى ابن أبي العَزَاقِر (= الشَّلْمَغاني رئيس التنظيم) فيقول أنا رب الأرباب”!!
ويبدو لنا أن ابن الأثير وقع في الفهم الظاهري لهذا النص الذي يحكي بعض شفرات القوم؛ فمن الواضح أن دلالة النص -بالنظر إلى أصحابه وهم حركة معرضة سياسية سرية تطاردها السلطة- تشير إلى لغة إجرائية في المراسلات، ولا تدل على عقيدة ودين. ومتى استصحبنا هذه الشفرات في فهم مراسلات الحلاج اتضح لنا قدرتها على تفسير ما أشكل من مراسلاته والمعاني المستبشَعة التي يجدها القارئ في “رِقاعه”، ونفهم حينها أنها ليست نصوصًا اعتقادية وإنما تمويهات لفظية أملتها ظروف أمنية ضاغطة.
وقد كان الحلاج يعي خطورة هذه اللغة السرية واحتمال تشويشها على العوام، فحذّر مَن اطلع على بعضها ممن حوله؛ ففي ‘أخبار الحلاج‘ لابن زنجي أن علي بن مردويه قال له شيخه الحلاج: “خذ من كلامي ما يبلغ إليه علمك، وما أنكره علمك فاضرب به وجهي ولا تتعلق به فتضل عن الطريق”. كما أنه كان يعذر المشايخ الذين يواجهونه بالمعنى الحرفي لمراسلاته السرية، ولا يتكلف الدفاع عنها أمامهم: “وقال للمشايخ: تريدون مناظرتي؟ أنا أعرف أنكم على الحق وأنا على الباطل”!!
طريق النهاية
يبدو أن الحلاج بعد عودته من رحلته الثالثة للحج في نحو 290هــ/904م نقل مشروعه إلى المواجهة مع السلطة العباسية، مستغلا الظروف العامة التي كانت تشهدها الخلافة العباسية على امتداد رقعتها الجغرافية؛ حيث كانت تواجه ثورة القرامطة في شرقي الجزيرة العربية منذ سنة 278هـ/892م، وظهورا قويا ومتناميا لحركة الفاطميين في الغرب الإسلامي منذ حوالي 280هـ/894م. لكنه ما إن أعلن المواجهة للسلطة حتى تنكر له بعض أصحابه من مشايخ الصوفية مثل أبي بكر الشبلي وأبي محمد الجريري الصوفي (ت 311هـ/924م)، وكلاهما كان من كبار أصحاب الجنيد.
ثم كان عليه مقاومة حملة تشويه شنها عليه خصمه ابن داود الظاهري ولم تنقطع إلا بوفاة الأخير سنة 297هـ/902م، ففي رواية الخطيب البغدادي عن حمد بن الحلاج أن أباه “حج ثالثا وجاور سنتين ثم رجع وتغير عما كان عليه في الأول، واقتنى العقار ببغداد وبنى دارا، ودعا الناس إلى معنى لم أقف إلاّ على شطر منه، حتى خرج عليه محمد بن داود وجماعة من أهل العلم وقبّحوا صورته” لدى السلطة.
وحين تسلم حامد بن العباس الوزارة سنة 306هـ/919م رأى الإسراع باستئصال خطر الحلاج المحدق، فأخذ يلاحق أتباعه ويفتش دورهم ويستخرج مراسلاتهم، وكان يأمر بقراءتها على علماء السلطان ليستخرجوا منها ما يُدين الحلاج. فاتفق أن قرؤوا على القاضي أبي عمر المالكي (ت 320هـ/933م) في إحدى رسائل الحلاج أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه ذلك، فله أن يطوف ببيته ثم يُكرم ثلاثين يتيما “فإن ذلك يقوم لهم مقام الحج”. فلما سمع القاضي ذلك التفت إلى الحلاج قائلا: “من أين لك هذا؟ فقال الحلاج: من كتاب الحسن البصري ‘الإخلاص‘، فقال: كذبت يا حلال الدم”!!
فانفتح للوزير بذلك بابٌ إلى التخلص من الحلاج بأمر قضائي! فقال للقاضي: “اكتب بهذا”! أي أجعله قرارًا رسميًا، فأخذ القاضي يتمنّع إذ لم يجد في هذا موجبًا لقتله، ولكن الوزير لم يكن ليضيع فرصة كهذه، رغم أن الحلاج أخذ يذكّرهم بأنه مؤمن لا يجوز لهم أن يتأولوا في قتله!! لكن الوزير ظل يُلحّ على القاضي حتى استخرج منه مرسومًا قضائيًا بشيء سبق على لسانه!
مضى الوزير إلى الخليفة ليبشره بصنيعه فتأخّر عنه جواب الخليفة وخاف من ضياع الفرصة، فبعث إليه برسالة أخرى فيها أن ما جرى في مجلس المحاكمة “شاع وانتشر، ومتى لم يتبعه قتل الحلاج افتتن الناس به ولم يختلف عليه اثنان”!؛ وفقا للخطيب البغدادي. وكان ذلك كافيا لتشجيع الخليفة على المصادقة على الحكم.
ثم كان من كمال التدبير السياسي ألا تكون طريقة الإعدام تقليديّة وإنما فيها من الإرهاب ما يردع غير الحلاج عن سلوك طريقته. فأمر الخليفة أن يُجلد “ألف سوط فإن هلك وإلا ضُربت عنقه”؛ حسب الذهبي. وأُخرج الحلاج تحت حراسة مشددة من الشرطة التي خافت أن تنتشله منها الجماهير؛ حسبما يحكيه التنوخي. جُلد الحلاج ألف سوط فلم يتأوّه وإنما كان يردد “أحَدٌ أحَدٌ”، فلما رأوا هذا أمروا بقطع أطرافه فـ”قُطعت يداه ورجلاه وحُزّ رأسُه، وأحرقت جثته وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد.. ثم حُمل إلى خراسان”!!
تم إعدام الحلاج –لثلاث أو ست بقين من ذي القعدة سنة 309هـ/922م- بالطريقة ذاتها التي أعدِم بها ثوار الزنج ورئيسهم علي بن محمد البصري سنة 270هـ/884م، بل إن كتب التاريخ تقول إن الحلاج صُلب ثلاث مرات: اثنتان منها حين قـُبض عليه سنة 301هـ/914م فـ”أدخِل.. مشهورا على جمل إلى بغداد…، ثم حُبس في دار السلطان”؛ حسب الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘. وصُلب مرتين -وهو حي- في جانبيْ بغداد الشرقي والغربي تخويفا للعامة لكنه لم يُقتل؛ والمرة الثالثة هي التي أعدِم فيها وصُلب يومين.
وهكذا راح الحلاج نتيجة مغامراته السياسيّة ومحاولته قلب نظام الحكم لإقامة دولة تقوم على مبدأ التزكية، وتعميم التجربة الصوفية. وقد وقف عليه صديقه الشبلي في آخر ساعاته ليبين له خطأ الطريق الذي سلكه؛ فقال: “وقد رأى الحلاج مصلوبا: ألم أنهك عن العالمين”؟!! المصدر : الجزيرة