عـلاء الـبـكـري
خرج ابن بطوطة من مسقط رأسه طنجة، وهي المدينة الصغيرة ذات المجتمع الضيق، ومن ثقافة شيوخه الدينية والتراثية، إلى عالم أرحب، وبلدان مختلفة، وثقافات متعددة بتعدد مجتمعاتها.
يشهد ابن بطوطة لدى مجاورته بمكة المكرمة قصة حسن المغربي المجنون، خديم ولي الله نجم الدين الأصبهاني، وهي من أغرب وأعجب الحكايات التي يرويها ابن بطوطة سيما وأنه كان شاهد عيان عليها. فقد كان حسن يرى أثناء طوافه بالليل رجلا فقيرا، يكثر الطواف بالليل دون النهار. في أحد الليالي لقي ذلك الرجل الفقير حسن المغربي فسأله عن حاله وقال له : يا حسن، إن أمك تبكي عليك طول الوقت، وهي مشتاقة لرؤيتك، أفتحب أن تراها. قال له نعم. ولكنني لا قدرة لي على ذلك. فقال له : نلتقي ههنا في الليلة المقبلة. فلما كانت الليلة المقبلة، وهي ليلة الجمعة وجده حيث وعده. فأمره أن يغمض عينيه ويمسك بطرف ثوبه ففعل ذلك. وبعد ساعة وجد نفسه أمام دار أمه، فدخل عليها، وأقام عندها ما يقرب نصف الشهر، وكان حسن ينحذر من مدينة آسفي المغربية. ثم خرج إلى المقبرة فوجد الرجل الفقير صاحبه فقال له : كيف أنت يا حسن ؟ فرد عليه : يا سيدي، إني اشتقت إلى رؤية الشيخ نجم الدين، وأحب أن تردني إليه. فقال له : نعم سأفعل، وواعده المقبرة ليلا. فلما وافاه بها، أمره أن يفعل كفعله في مكة المكرمة شرفها الله، من تغميض عينيه والإمساك بطرف ثوبه، ففعل ذلك، فإذا به في مكة المكرمة.
لكن عجائبي هذه الحكاية لا ينتهي بعودة حسن المغربي إلى مكة، فقد أوصاه الرجل الفقير بأن لا يحدث أحداً بما جرى، ولا مولاه نجم الدين الأصبهاني، لكن هذا الأخير ألح في السؤال إلى أن باح له حسن بالحكاية وضرورة سريتها، ونعت له الرجل. لكن الرجل الفقير سمعه وضربه بيده على فمه وقال : اسكت أسكتك الله. فخرس لسان حسن، وذهب عقله.
ومن الحكايات التي سمعها وشهدها ابن بطوطة إثر حلوله بمدينة صين كلان (غوانزو اليوم) في بلاد الصين، حكاية الشيخ المسن الذي أناف على مئتي سنة، ولا يأكل ولا يشرب ولا يحدّث ولا يباشر النساء مع قوته التامة، وأنه ساكن في غار بخارجها يتعبد فيه. فتوجه إليه ابن بطوطة حيث هو في الغار، فرآه على بابه، وهو رجل نحيف شديد الحمرة عليه أثر العبادة، ولا لحية له. فبادره ابن بطوطة بالسلام، فأمسك الشيخ يده وشمها وقال للترجمان: هذا من طرف الدنيا كما نحن من طرفها الآخر. ثم أردف : لقد رأيت عجبا ! أتذكر يوم قدومك للجزيرة التي فيها الكنيسة. والرجل الذي كان جالسا بين الأصنام وأعطاك عشرة دنانير من الذهب ؟ فقال له ابن بطوطة: نعم. فقال الشيخ : أنا هو. فقبل ابن بطوطة يد الشيخ. وأخد الشيخ يفكر لمدة ساعة قبل أن يدخل إلى الغار دون عودة. وكأنه ظهر منه الندم على ما نبس به. فتهجم ابن بطوطة ومن معه على الغار فلم يجدوه، ووجدوا بعضا من أصحابه فقالو لهم : هذه ضيافتكم، فانصرفوا. فقالوا : إننا ننتظر الرجل. فردوا عليهم: لو أقمتم عشر سنين لم ولن تروه. فإن عادته إذا اطلع أحد على سر من أسراره لا يراه بعدها. ولا تحسبوا أنه غاب عنكم. بل هو حاضر معكم. فعجب ابن بطوطة أشد العجب من ذلك. وانصرفوا. فأعلم ابن بطوطة القاضي وشيخ الإسلام وأوحد الدين السنجري بقضيته، فقالوا له : كذلك عادته مع من يأتي إليه من الغرباء ولا يعلم ما ينتحله من الأديان، وأخبروه أن الرجل الذي ظنوه أحد أصحابه إنما هو هو.
ويختتم ابن بطوطة حكايته بقوله : “وحدثوني عنه بأمور كثيرة، وأخبرني أوحد الدين السنجري، قال: دخلت عليه الغار فأخذ بيدي. فخيّل إليَّ أني في قصر عظيم، وأنه قاعد فيه على سرير، وفوق رأسه تاج، وعن جانبيه الوصائف الحسان، والفواكه تتساقط في أنهار هنالك، وتخيّلت أني أخذت تفاحة لآكلها، فإذا أنا بالغار، وبين يديه وهو يضحك مني، وأصابني مرض شديد لازمني شهورا، فلم أعد إليه. وأهل تلك البلاد يعتقدون أنه مسلم. لكن لم يره أحد يصلي. أما الصيام فهو صائم أبدا.