عـلاء الـبـكـري
خرج ابن بطوطة من مسقط رأسه طنجة، وهي المدينة الصغيرة ذات المجتمع الضيق، ومن ثقافة شيوخه الدينية والتراثية، إلى عالم أرحب، وبلدان مختلفة، ومجتمعات متعددة بتعدد ثقافاتها.
استتماماً واستكمالاً لما جاء في تحفة النظار من أخبار السحرة الجوكية (اليوجا)، نستحضر حكاية الرجل الجوكي الذي لقيه رحالتنا واثنين من أصحابه بإحدى الجزر القريبة من جزيرة سـنْدابور الواقعة في بلاد الهند، وهي جزيرة في وسطها ست وثلاثون قرية. فيحكي ابن بطوطةَ إبّان ولوجه وصاحبيه هذه الجزيرة أنهم وجدوا ببدخانتها رجلاً جوكياً مستنداً على حائط – والبدخانة هي بيت الأصنام – وعليه أثر العبادة والمجاهدة، فكلموه ولم يُجِب، ونظروا هل معه طعام، فلم يروا طعاما عنده، وبينما هم شاردون في النظر إليه، صرخ الرجل صرخة عظيمة، فسقطت بصرخته جوزة من جوز النارجيل (جوز الهند) بين يديه، فدفعها لهم. يقول ابن بطوطة: “فعجبنا من ذلك”، ثم دفعوا له دنانير ودراهم فلم يقبلها. وأتوه بزادٍ وطعام فرده عليهم. وكانت بين يديه عباءة من صوف الإبل مطروحة، فقلبها ابن بطوطة وتحسسها بيديه، فدفعها إليه. وكان رحالتنا يمسك بيديه مسبحة أخذها الجوكي منه وقلبها وفركها بيده وشمها وقبلها ثم أشار إلى السماء، ثم إلى جهة القبلة. ففهم ابن بطوطة أنه أشار إلى أنه مسلم يخفي إسلامه من أهل تلك الجزيرة، ويتعيش من تلك الجوز. ولما آن وقت وداعه قبل ابن بطوطة يد الرجل الجوكي وكذلك فعل الرجل، وأشار لهم بالانصراف فانصرفوا عنه. وكان رحالتنا آخر أصحابه خروجا، فجذب الجوكي ثوب ابن بطوطة وأعطاه عشرة دنانير. فلما خرجوا عنه سأله أصحابه: لم جذبك؟ فقال لهم: أعطاني هذه الدنانير. فأعطى لظهير الدين ثلاثة منها، ولسنبل ثلاثة، وقال لهما: الرجل مسلم، ألا ترون كيف أشار إلى السماء؟ يشير إلى أنه يعرف الله تعالى، وأشار إلى القبلة، يشير إلى معرفته برسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وأخذه المسبحة يصدق كل ذلك. فرجعا إليه لما قال لهما ذلك فلم يجداه. ويوم وصوله قرية هنور جاءه أحد الجوكية من الهنود في خلوة، وناوله ستة دنانير، وقال له: البَرْهَمي بعثها إليك، والبرهمي هو الرجل الجوكي الذي أعطيته المسبحة، فأخذها ابن بطوطة منه، وأعطاه دينارا فلم يقبله، وانصرف. ثم أخبر صاحبيه بالقضية وقال لهما: إن شئتما فخذا نصيبكما منها، فأبيا وجعلا يعجبان من شأنه. وقالا له: إن الدنانير الستة التي أعطيتنا إيّاها تركناها بين الصنمين حيث وجدنا الرجل، يقول ابن بطوطة: “فطال عجبي من أمره، واحتفظت بتلك الدنانير التي أعطانيها”. بعيدا عن السحرة الجوكية وأخبارهم العجيبة، ومن أرض الهند في آسيا إلى أرض السودان بإفريقيا يروي ابن بطوطة ما استقبحه وما استحسنه من أفعال هؤلاء السودان. ومن القصص التي شهدها رحالتنا ابن بطوطة ولم تثر في نفسه سوى الدهشة والغرابة والعجب ما حدث له بإحدى قرى دولة مالي، فيحكي أن جماعة من أهل السودان ممن يأكلون لحوم البشر وفدت على سلطان تلك القرية ويُكنَّى مِنْسَى سُليمان، وكانت عاداتهم أن يجعلوا في آذانهم أقراطا كبارا، وتكون فتحة القرط منها نصف شبر، ويلتحفون في ملاحف الحرير. فأكرمهم السلطان وأعطاهم في الضيافة خادمة تخدمهم، فذبحوها وأكلوها، ولطّخوا وجوههم وأيديهم بدمها قبل أن يشكروا السلطان. وهذه عادتهم متى ما وفدوا عليه أن يفعلوا ذلك. ويُشاعُ أنهم يقولون إن أطيب ما في لحوم بني آدم الكفّ والثدي. ويردف ابن بطوطة حكاية أخرى شهدها عنهم في قرية أخرى بمالي تسمى “قُرِي مِنْسَا”، فإثر بلوغه هذه البلدة أخبره راعيه أن الجمل الذي كان يستقلّه قد مات، وعندما خرج ابن بطوطة للتحقق من حقيقة موت الجمل، وجد السودان قد أكلوه كعادتهم في أكل الجيف