مع اقتراب موعد إغلاق مكتبة الساقي في العاصمة البريطانية لندن, تشرد سلوى كسبار – وهي ترتب الكتب- في الرفوف الخشبية التي طالما سهرت على ملئ خاناتها بمئات الكتب العربية والانجليزية، وكأنها تودعها إلى لا عودة. كيف لا، وهي التي ساهمت بشكل كبير في تأسيسها منذ نحو نصف قرن من الزمن.
لقد بات من المقرر إغلاق أبواب أقدم مكتبة عربية في لندن بعد أربعة وأربعين عاما من النشاط بسبب ارتفاع االتكاليف الناجمة عن التحديات الاقتصادية العالمية الأخيرة التي أثقلت كاهلها.
وتمكنت دار الساقي، التي تتخذ من منطقة “بايزووتر” مقرا لها، على مدار أربعة عقود، من التغلب على عدة انتكاسات بما في ذلك تعرض نوافذها للتحطيم خلال حرب الخليج الثانية، وبعد نشر كتاب سلمان رشدي المثير للجدل “آيات شيطانية. لكن على ما يبدو، وللأسف، فإن المكتبة لم تقوَ على تحمّل الضربات المتتالية، من جائحة كوفيد-19، إلى البريكست، مروراً بالفوضى السياسية والاقتصادية في لبنان، حيث تطبع دار النشر التي أسسها الزوجان أندريه وسلوى كسبار معظم كتبها وتصدّرها.
خلال العام 1978، لم يكن في عاصمة الضباب أيمركز ثقافي يلجأ إليه القادمون من العالم العربي، فجاءت مكتبة الساقي لتملأ هذا الفراغ وتؤنس عرب المهجر وتحقق النجاح سريعاً. وكانت اسم المكتبة إسماً على مسمى، إّذ باتت أشبه بالساقي الذي يحمل الماء في الصحراء، ينهل المتعطشون إلى الثقافة العربية من مخزونها ما يروي ظمأهم. وتتذكر كاسبار أن هؤلاء الناس “كانوا يذهبون إلى (شارع التسوق الرئيسي) أكسفورد ستريت، وإلى (حي) نايتسبريدج (الذي يقع فيه متجر هارودز الشهير) ويقصدون مكتبة الساقي”.
وهذا نفسه ما أكده الموظف الإنكليزي في المكتبة والطالب السابق في اللغة العربية جوزف ديفين، بقوله أن المكتبة “كانت دائماً مكاناً يقصده الناطقون بالعربية من كل أنحاء الشرق الأوسط لشراء كتب لا يستطيعون شراءها في بلدانهم”، لكونها خصوصاً محظورة من أجهزة الرقابة، ولكن كان لها أيضاً دور كبير في “ترجمة الأدب والمؤلفات إلى اللغة الإنكليزية ونشرها للجمهور الناطق باللغة الإنكليزية”.
ولم تكتف مكتبة دار الساقي بإدراج الكتب العربية فقط، بل درجت بين رفوفها جل المؤلفات الإنجليزية التي تتحدث عن العالم العربي، والتي تنقل “عن الشرق فكرة مختلفة عن الصور العنيفة التي تتناقلها محطات التلفزيون أو الصحف”، بحسب كسبار.
بالإضافة إلى ذلك، وجد بعض الكتاب والأدباء العربحينئذ في مكتبة الساقي اللندنية طوال أربعين عاماً مكاناً لإطلاق مؤلفاتهم، على غرار الشاعر السوري الشهير علي أحمد سعيد أدونيس. وكانت المكتبة التي شكّلت فسحة لقاء، لا، بل ملجأ أحياناً لمن اقتلعتهم حروب المنطقة العربية من بلدانهم أو اضطرتهم أزماتها الاقتصادية إلى الهجرة، تتمسّك بشراسة باستقلالها وروح الانفتاح التي تميّزها.
وقاد نجاح المكتبة الزوجين أندريه وسلوى كسبار إلى تأسيس دار نشر، تولّت أولاً ترجمة مؤلفات عربية إلى الإنجليزية، ومنها مثلاً “الحروب الصليبية كما رأها العرب” للفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف، وأتبعاها بعد سنوات قليلة بدار نشر أخرى في لبنان مخصصة للكتب بالعربية.
وسبق للزوجان أن تعرضا للتهجم والانتقادات أيضاً عندما نشرا ترجمة الإسرائيلي أبا إيبان لرواية “يوميات نائب في الأرياف” للكاتب المصري توفيق الحكيم. وتتذكر سلوى كسبار قائلة “غضب الناس يومها (…). كان ذلك قبل عملية السلام، لكنه كان مجرد اتحاد فكري بين مصري وإسرائيلي”.
وعلى الرغم من حرصها الشديد على النأي بنفسها عن السياسة، وأملها الدائم في التعافي من تداعيات الكوفيد القاتل، لم تتمكن المكتبة الواقعة في مبنى أبيض تتخلله أعمدة على مقربة من محطة بادينغتون للقطارات، من الصمود أمام ارتفاع الأكلاف في بريطانيا والوضع الفوضوي في لبنان، رغم كونها تحوّلت منذ أن افتتحها الزوجان كاسبار مع صديقة لهما عام 1978، مركز استقطاب للمثقفين وللعرب المقيمين في لندن أو الزائرين لها.
وقوبل الإعلان عن إغلاق المكتبة في نهاية الشهر الجاري بوابل من المنشورات والتعاليق عبر مختلف وسائلالتواصل الاجتماعي يبدي فيها أصحابها أسفهم وحزنهم العميق جراء هذا القرار.
تقول سلوى كاسبار بكل حسرة وأسى “عندما غادرنا لبنان، لم يكن لدينا أي من أفراد عائلتنا في لندن. كانت المكتبة عائلتنا. فالموظفون وحتى بعض الزبائن كانوا مثل عائلتنا، ونحن اليوم نفقد كل ذلك”.