نساء يكابدن برودة السجون، وبعد الإفراج يواجهن سجناً أكبر وبرودا أكثر… إنه سجن المجتمع والوصم الاجتماعي…
سجن المجتمع والوصم الاجتماعي
تسلمت مريم ح. بحي النساء بطاقة الإفراج واستعدت للرحيل من السجن الذي أعطاها تذكرة للخروج بعد ان كتم على أنفاسها سنين عجاف.
أنهت الإجراءات وودعت من حولها من سجينات وذكريات سنوات الحرمان من الحرية التي أمضتها على فرشة رمادية مهترئة داخل زنزانة صغيرة تكدست بحكايات أخرى لم تجد لها مريم ح مكاناً بين زحام همومها. ملابسها القديمة التي تركتها في هذه الخزانة قبل ثلاثة أعوام مضت، حذاؤها الباهت وكيس نقودها الصغير الذي احتفظت بداخله ببطاقة هوية ما زالت تذكّرها بتفاصيل حياة مضت دون فرصة للعودة، وغيرها من «اللوازم اليومية» المتناثرة التي حملتها بتردد قبل أن يخبرها الحارس بأنها حرة الحركة وتستطيع الانصراف.
بملامح غير مصدقة خرجت من بوابة السجن الضخمة بنفس مثقلة بهموم أخرى، لمواجهة سجن آخر أكثر عدواني وألماً هو سجن المجتمع الذي كان لقاؤه أصعب من لقاء فرشتها الرمادية خلال ليالي السجن الباردة.
لم يكن دخولها السجن بداية القصة التي اختارت مريم سردها بغصة لم تغب عن نبرة صوتها طوال الحديث. ظروف الحياة جعلتها تعيش في غرفة صغيرة مع زوج عاطل عن العمل وثلاثة أطفال تعلقوا برقبتها. لم يكن أمامها خيارات أخرى سوى الخروج للعمل، الذي بدأته بتجارة الملابس، تسدّد أقساطها لتجار الجملة بإيصالات أمانة وشيكات بيضاء، ترك فيها التاجر لنفسه حرية التصرف استغلالاً لظروفها القاسية، فراحت الديون تتراكم على كتفيها قبل أن تتعثر في الدفع لتجد نفسها بين جدران السجن.
«سنوات من الشقاء أمضتها بين جدران السجن، لم أكن أحلم بالخروج يوماً، أو رؤية أطفالي مرة أخرى». هكذا بدأت مريم حديثها عن حكايتها داخل جدران السجن المنيعة الشائكة. لم تنس يوماً ما عاشته ليلة بعد أخرى من جوع ممزوج بألم وإهانة ووحدة وحرمان، حتى من رؤية أبنائها، بعد أن تبرأ منها زوجها وتزوج من أخرى بمجرد دخولها السجن، ومنع أولادها من زيارتها. دموع لم تستطع مريم حبسها أثناء الحديث الذي أكملته قائلة: «دخلت السجن بعد قضية إيصالات أمانة لسداد أقساط الملابس التي كنت أتاجر بها في محاولة للإنفاق على أسرتي. ما رأيته داخل السجن من إهانة لم يكن بصعوبة فراق أولادي الذين حرمت من رؤيتهم حتى بعد خروجي من خلف القضبان».
«فترة العقوبة كانت طويلة جدا خاصة واني ام ولي ابناء في سن الزهور… قبل أن تستطيع الخروج بسداد الأقساط التي تولتها عنها «جمعية ماما آسية»، ضمن مشاريعها الاجتماعية التي ساعد سجينات مكلومات على الخروج إلى الحياة من جديد، كما أوضحت مريم التي واصلت سرد قصتها قائلة: «بعد خروجي من السجن أغلقت كل الأبواب في وجهي مرة أخرى، لم أصدق ما قاله رئيس حراس السجن الذي أوصاني بعدم الرجوع… خطوت إلى الخارج وأنا أفكر في حياتي المقبلة التي لم أشاهد لها معالم واضحة، بعد أن رفض زوجي رجوعي إلى المنزل، ومنعني من زيارة أولادي».
صمتت برهة كمن تتذكر أصعب المشاهد التي مرت عليها في الداخل والخارج، ثم اختارت المشهد الأصعب الذي سردته باكية: «بعد خروجي طردني زوجي وحرمني أولادي بحجة أنني لا أصلح للحياة كأم بعد اليوم… لم يكن موقفه أحسن حالاً من موقف المجتمع الذي نبذني، ولم يفتح لي باباً للحياة مرة أخرى». الامتعاض والردود القاسية والطرد أحياناً هي كل ما حصلت عليه مريم من المجتمع الذي رفض وجودها بوصمة «الحباسة» التي التصقت بها… لم تستطع إيجاد عمل أو مسكن، رحلت من مدينتها هروباً من الوصم الاجتماعي، وقررت الاختفاء عن الأعين متمنية أن ينساها الجميع ويتركها القدر للحظة استرخاء لم تنعم بها يوماً. لم تشعر بالحرية بعيداً عن فرشتها في حي النساء بقدر ما شعرت بمزيد من الغربة والاحتقار من المجتمع، الذي لم يفرق بين تهمتها وتهم اخرى أكثر خطورة