في آخر الممر، ينفتح باب المكتب الصغير على فوضى ورقية صغيرة. قرب حاسوب بشاشة كبيرة، نظارات طبية تسعف في مسلسل المراجعات التي لا تنتهي، وفي الخلفية مشهد فاتن لبحيرة ليمان تلفها جبال مكسوة بالثلج. على يمينه، يكمن ديوان “المتنبي”، المرجع الذي لا يبلى في الشعر… وفي اللغة.
رحلة طويلة وحافلة بالمنعرجات تلك التي قادت المغربي محمد أوكامادان إلى قصر الأمم المتحدة بجنيف، بعنوان لا يحتمل أي تناقض أو دهشة: الأمازيغي ابن سوس العالمة يرأس القسم العربي للترجمة في المحفل الأممي. تزاوج بين إرادة حديدية وترتيبات قدرية أنجب هذا الرجل الذي يسهر مع طاقمه على أن تتحدث المنظمة الأممية عربية تلهج بها ألسنة 400 مليون فرد.
في إداوتانان، مسقط الرأس، لم يعرف محمد العربية إلا في صفوف المدرسة العمومية. ولعل التأخر في الاكتشاف كان حافزه على الكد لامتلاك مطية الضاد. ارتباط العربية بالقرآن كان حافزا آخر. “إنها مفتاح الجنة يا أبنائي، لأنها مفتاح قراءة القرآن وتدبره”، قال المعلم، فالتقط الطفل الوصية وعمل بها.
لم يلتحق الولد الذي فتح عينيه في أسرة متدينة أنجبت أعماما وأخوالا من الفقهاء، بالمدرسة النظامية إلا بعد أن اجتاز الرابعة عشر من العمر. كانت طفولة في رحاب “المسيد” بزاوية تيغانيمين، قبل أن ينضم إلى فصول التعليم الأصيل بتارودانت. كان حلم الأب أن يشق الطفل طريقه إلى جامعة القرويين ليتخرج علامة حاملا لعلوم الدين، ولم يرخص له إلا بصعوبة بالولوج، متأخرا، للمدرسة العصرية.
بعد الشهادة الإعدادية، سيختار محمد متابعة تعليمه الثانوي في مدرسة خصوصية حيث سيعد نفسه لاختبار الباكالوريا. كان التحدي العصامي في اختيار الباكالوريا مزدوجة اللغة، وتعاظم التحدي في جامعة أكادير باختيار التخصص في الأدب الفرنسي. لغتان كان اتقانهما يحمل محمد، خارج الزمن المدرسي، على التهام كل ما يقع بين يديه من كتب ومعاجم.
يكشف سر حليف حاسم رافقه طيلة مساره التعليمي، وكان سرا من أسرار التفوق. ذلك الإرث القرآني شحذ ذاكرة قوية فضلا عن مرجعيته في تمثل اللغة وفك شفراتها.
من الجنوب إلى أقصى الشمال، حيث طنجة، عاصمة الترجمة. ولج محمد مدرستها وتصدر أفواجها خلال السنوات الثلاث، وعلى مستوى مختلف التشكيلات اللغوية المقررة. سنة 1990، تخرج بدبلوم مترجم، واستحق منحة فرنسية حملته إلى جامعة ليون الثانية، حيث سيعد أطروحته للدكتوراه حول التوليد المصطلحي في العربية (مع التركيز على المجاز) تحت إشراف مستعرب كبير: أندري رومان الذي يذكره بعرفان غامر، مع أنه كان شديدا صارما في تأطيره العلمي.
بميزة مشرف جدا أمام لجنة رفيعة من المتخصصين، سيوعد محمد بمنصب جامعي لولا أن الحنين والرغبة في خدمة البلد تحمله إلى المدرسة التي تخرج منها، مدرسا يحلو له العيش في طنجة، مدينة تشكل هي ذاتها هوية مصقولة بالتعددية الثقافية واللغوية. لكن، بعد حين، سيتجدد في نفسه هاجس مغامرة جديدة، فتبدأ الرحلة الأممية من نيويورك سنة 2004، بعد أن حصل في المباراة على أعلى نقطة على صعيد جميع العواصم العالمية التي احتضنت الاختبار.
من نيويورك إلى فيينا، التي ارتقى فيها من مترجم إلى مراجع، إلى بيرن رئيسا لقسم الترجمة بالاتحاد البريدي العالمي فالعودة إلى فيينا، وعودة إلى نيويورك كبيرا للمراجعين. في أكتوبر 2017، يتسلم محمد منصب رئيس قسم الترجمة بمقر الأمم المتحدة بجنيف، ثاني أكبر قطاع للترجمة العربية في المحفل الأممي.
محمد أوكامادان قصة نجاح بصيغة مغربية متعددة. تلك الأسماء التي تؤثث مكاتب القسم على امتداد الممر الطويل تحيل إلى بلاد تميز أبناؤها منذ القدم بامتلاك نواصي اللغات. لعل الموقع الجغرافي والمسار التاريخي المطبوع بعبور وتلاقح الحضارات يفسر هذا الامتياز. مغاربة القسم يقاربون نصف تعداد الطاقم الذي يضم 22 مترجما رسميا.
وكفاءتهم محل تقدير، في الترجمة التحريرية، والفورية على السواء. يذكر فضل مدرسة فهد للترجمة في تخريجها لأطر عالية المستوى، اقتحمت الوظيفة الدولية الأممية منذ بداية الألفية، لكن يطيب له أن يستحضر جذورا قديمة لموهبة اكتساب اللغات في المغرب الأقصى. لقد اصطحب حانون القرطاجي، في القرن الخامس قبل الميلاد، “مترجمين” مغاربة، غالبا من منطقة ليكسوس، في رحلته البحرية التي جابت سواحل الغرب الإفريقي.
الترجمة عملية إبداعية وذهنية، لا تقنية بحتة. المترجم نحلة تنهل رحيقا وتحوله إلى عسل. يتقمص ذات الكاتب ويجعله يتكلم لغة وثقافة أخرى. الممثل الجيد يجعل مشاهده ينساه ليراه شخصية درامية، كذلك يشبه محمد أوكامادان المترجم البارع الذي يتقن عمله حين تختفي ذاته.ينبغي أن ينسى القارئ أنه يقرأ نصا وسيطا ليجد نفسه في نص أصيل. يبدو متفائلا بمكانة العربية في أروقة الأمم المتحدة، تماشيا مع تكريس مبدأ الديمقراطية اللغوية واتساع نشاط الدول العربية في محافلها.
أما المغرب فعودة غير مستبعدة بعد التقاعد، ثم يستدرك: لم أغادر المغرب ولم يغادرني حتى أعود إليه. ولعل الوطنية شعور يتوارث في الحامض النووي، على حد قوله. فقد كان ابنه، عامر، الذي ولد في نيويورك ولم يعش المغرب إلا موئلا لعطل موسمية، في قلب احتفالات مغاربة جنيف بانتصارات أسود الأطلس في المونديال.
من سوس العالمة إلى جنيف.. تذكرة سفر على أجنحة الحلم والإرادة، وضعت محمد أوكامادان في بؤرة رهان حيوي: أن تتحدث الأمم المتحدة بلسان عربي فصيح.