لا يختلف اثنان حول المكانة الرفيعة التي تتبوأها الدكتورة نادية العشيري، الأستاذة في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، في مجال الترجمة، سيما من خلال عملها المستمر على مد جسور السلام والتعاون والمثاقفة عبر لغة سيرفانتيس. ولعل فوزها بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، في دورتها التاسعة، خير دليل إسهاماتها القيمة في حقول الترجمة.
وإلى جانب اشتغالها في مجالات مختلفة “مثل الأدب الإسباني والعربي والنقد الأدبي وميادين اللغة والشعر، أنجزت الدكتورة نادية العديد من البحوث العلمية عن المرأة العربية والحركة النسوية وأدب النساء”.
وفي سياق أدب النساء الذي يشكل موضوع ملف هذا الشهر، كان لمجلة فرح حوار مع الدكتورة نادية العشيري، على هامش الجلسات الفكرية التي نظمتها رابطة كاتبات المغرب وإفريقيا، مؤخرا بمدينة كلميم.
س: كيف تعرفين الأدب النسائي؟ بمعنى، هل الإبداع يخضع لمعيار الذكورة والأنوثة؟
ج: بالنسبة للأدب النسائي، هناك أدب تكتبه المرأة وهناك أدب يكتبه الرجل، وهذا لا يعني بأن هنالك نوعا من التفاضل بينهما، فقط عندما نريد أن ننكب على دراسة هذا الأدب، على اعتبار أنه لم يحظ بالاهتمام الذي كان ينبغي أن يحظى به كما حظي به أدب الرجال، كوسيلة إجرائية لدراسة هذا الأدب.
ثم بعد ذلك يأتي سؤال الخصوصية دائما من باب التفاضل، يعني لا نبحث هل هذا الأدب أفضل من هذا، هل هذا هو المركز وهذا هو الهامش بالشكل الذي رأته به المبدعات اللائي رفضن أن يقوم الناقد أو الناقدة بهذا التمييز.
إذن، فالأدب النسائي بالنسبة لي عندما أقول الأدب النسائي فإنني أعني به أدب النساء، ولكن هذا لا يعني أنه ليس ثمة خصوصية، وإلا فيبقى السؤال؛ لماذا تكتب المرأة؟ ولطالما طرح هذا السؤال على المرأة وأجابت عنه مبدعات كل من وجهة نظرها، فهناك من رأت فيه بابا للتحرر والانعتاق، بابا للبوح بما تشعر به، فهي حاجة إنسانية بالأساس، فكما يحس الرجل برغبة في الكتابة كذلك تحس المرأة، بيد أن الضغط الذي مورس على المرأة أكثر من الضغط الذي مورس على الرجل، فهو ضغط مضاعف. ثم إن الأدوار مختلفة، وأنطولوجياً، التجربة التي تعيشها المرأة مختلفة عن تجربة الرجل.
إذن، لا بد كما يريد كل أديب أن يبصم على أدبه، كذلك النساء أردن أن يضعن بصمتهن، ونحن لا نساوي أدب جميع النساء ولا نضعه في كفة واحدة، فيبقى المقصود بالأدب النسائي ذلك الأدب الذي تكتبه المرأة، وقد تتبنى القضية النسائية وقد لا تتبناها، وقد يكون هناك رجال ينافحون عن القضية النسائية أو تشتم فيهم النسوية وليس النسائية.
وفي هذا الباب، يمكننا الحديث عن كُتَّاب مثل إحسان عبد القدوس، ممن أقنعوا وحاولوا الدخول إلى عالم المرأة من منطلق أن لدى الرجل أيضا جانب من الأنوثة وإن كان يرى في ذلك انتقاصا؛ لأن هذا عائد، بالأساس، إلى التربية. لكن الإنسان أول ما يحاول أن يفهم يحاول أن يفهم نفسه، فإذا اطّلعت على الكثير من الروايات أَلفَيْتَ فيها هاذين الجانبين، بغض النظر عمن كتبها، مثلا؛ الكاتب والروائي المغربي محمد برادة تجد هذا الجانب حاضرا بقوة، في روايتيه “لعبة النسيان” و”امرأة النسيان” هذا الجانب حاضرا بقوة، من خلال الطريقة التي يكتب بها عن أمه، عندما يصف معاناة المرأة يشعرك بصدق فني يصعب معه التمييز هل هذا أدب كتبه رجل أم كتبته امرأة، وهذا سؤال طُرح عليه فعلا، غير أنه – بتواضع شديد – قال إنه لا يستطيع أن يكتب عن معاناة الزنجي مثلا، أو لا يستطيع أن يكتب يكتب عن معاناة المرأة لأنه لا يدخل في جلدها.
ومن جهة أخرى، قد تجد نساء يكتبن بطريقة يتبنَّيْنَ فيها نفس الموقف الذكوري، وهنا نعود إلى مسألة التربية، فيما أن المرأة هي التي تربي، فإنها تربي بهذه الطريقة، قد تطلب الأم من البنت أن تخدم أخاها، وعندما تشتري اللُّعَب تشتري للبنت دمية لتعيد نفس الأدوار. ويبقى مجال التفرقة في اهتمامات القوة للرجل، وهي الصورة النمطية التي نعرفها جميعا.
س: ألا ينطوي هذا الاصطلاح (الأدب النسائي) على تمييز وإقصاء؟
ج: الإقصاء ليس المصطلح هو الذي يكرِّسه بقدر ما نعني به ذلك الأدب الذي تكتبه المرأة، بغض النظر عن كونه جيدا أو رديئاً، وهو أدب يخضع للنقد كما يخضع له أدب الرجل. لكن يحزُّ في نفسي عندما أدرس الأدب الذي كتبته النساء على مر العصور وأجد أنه مثلا في بعض المعاجم أو في بعض كتب التراجم فصلا قصيرا مخصصا للنساء، والذي لا يعجبني أيضا في طريقة التعامل مع المادة الببليوغرافية التي يريدها هؤلاء المترجمون، هو اهتمامهم مثلا بجمال المرأة، في حين أن قضية الوسامة غير واردة عند الرجل، فهو عالم أو غير عالم، والمقاييس التي وضعها المترجم لكي يترجم؛ هل هو كتاب ترجمة متخصص أم كتاب تراجم عامة. فما دخل الجمال في هذه القضية؟. ثم هناك الحياة الشخصية للمرأة؛ هل تزوجت أم لم تتزوج؛ بمعنى أنهم لا يتعاملون مع الرجال كتعاملهم مع النساء رغم أن الفكرة هي أن تكتب تراجم لنساء برعن في الفقه أو برعن في الأدب.
وثمة أمر آخر، يتمثل في أن النظرة التي كانت تطغى على هؤلاء المترجمين في مختلف العصور اختلفت مع الوقت، ففي البداية كانوا لا يترجمون إلا للنساء اللائي يتعاطين للعلوم الدينية (القرآن، الحديث)، عدا ذلك هناك من صرح في مقدمة كتابه بأن هؤلاء النسوة كن من الجواري وأنا لا أريد أن يدخل هذا النوع من النساء ضمن المترجم لهن، أو أنا لا أتحدث عن الفن والغناء، فهذه الأمور لا تقارن بالبراعة في علوم الدين التي كانت تحظى بالأولوية.
ثم اكتشفت شيئا آخر، هو أن النساء كن على وعي في فترة مبكرة بأنهن إذا لم يكتبن هن عن سيرهن فسوف تضيع. ووجدت أن هناك سيدة أندلسية كتبت كتابا تحاكي فيه كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، لكنه ضاع كما ضاعت الكثير من الكتب للأسف. إلا أنه في وقتنا الحاضر، أعتقد أن الأدب النسائي اكتسح الساحة، وبالتالي هناك تراكم، حيث قيل في البداية أن هناك من تكتب رواية واحدة وتختفي، أو ثمة نساء يقلن إنهن شاعرات ولكنهن في الحقيقة لم تنشر لهن إلا قصائد على صفحات الجرائد والمجلات، ولم ينشرن دواوين ولم يصلن إلى حد الادعاء بأنهن شاعرات. أما الآن، فنجد أن هذا الكم موجود.
ثم قيل أيضا من طرف العديد من النقاد أن هذا الأدب فيه ضحالة، لأن المرأة ليست لديها تجربة عميقة في الحياة أو ليست لديها تجارب حتى تكتب عنها، في حين أن أدب الرجل أكثر عمقا. وقالوا إن هذا الأدب يشبه نفسه؛ يعني يكفي أن تقرأ رواية واحدة لامرأة فتعرف المواضيع التي تحظى باهتمام النساء. لكن هذا التراكم وهذا التنوع دليل على تطور الروائية في تجربتها، فالرواية الأولى ليست هي الثانية، والرواية الثانية ليست هي الثالثة. وهناك التجريب، حيث أصبحت الكثير من الروائيات يجربن في أنواع مختلفة من الكتابة، يكسرن السرد بشكل من الأشكال، ومن ناحية استنباط الشخصيات، وفرضن على النقاد أن يتعاطوا مع أدبهن على أنه تخييل وليس تجربة شخصية كما كانوا يفعلون في البداية، لأن هذا يعد نوعا من الضغط على المرأة حتى تمارس هي بنفسها على نفسها تلك الرقابة الذاتية، والأدب كما نعرفه هو رديف الحرية، إذا لم تكن هناك حرية فليس هناك أدب، ولا يعتبر النقد تلصصا، ودور الناقد ليس هو دور البوليسي؛ ثم لماذا يسمح للرجل أن يتخيل ما يشاء ويُحد من هذه المَلَكَة لدى المرأة، فعلا كان هناك ظلم وحيف، ولكن الآن أصبح للمبدعات وعي بالكتابة، والكثير من النساء يثبتن ذواتهن بتصريح منذ البداية بقولهن “أنا المرأة”، واختيار بطلات أو الشخصية الرئيسية التي تكون في الغالب امرأة وقد تتماهى معها الساردة في كثير من الفقرات دون أن يعني حقا أنها عاشت تلك التجربة. فبمجرد أن يبدأ الناقد في هذا الخلط، تعرف الخلفية التي يصدر عنها، وتعرف بأنه لا يمتلك أدوات نقدية تسمح له بالتعامل مع الأدب على أنه تخييل.