كانت القدس المحتلة كالحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة محط عناية المغاربة والأندلسيين على السواء، فهذه المدينة طالما زارها الحجاج وطلاب العلم القادمين من بلاد الأندلس والمغرب البعيدة وكتبوا عنها بمزيد من الدقة والتوصيف.
صحيح أن هذه الكتابة كانت لبني جلدتهم من قاطني المغرب والأندلس تشويقا للزيارة وتنويها بالفضل ووصفا للآثار والمعابد الدينية في المدينة المقدسة بيد أن هذه الكتابات أضحت فيما بعد لونا من ألوان أدب الرحلات فزادت أهميتها التاريخية والتراثية على السواء.
فقد أمدتنا بمعلومات قيمة لم يدر في خلد مؤلفيها أهميتها وقت تدوينها، خاصة أنهم أودعوا فيها معظم مشاهداتهم عن مدينة بيت المقدس التي لم تهتم بها كتب التاريخ المعاصرة لهم من حيث الوصف الدقيق للمدينة ونمط الحياة فيها فأثنوا على الحسن منها، ودعوا إلى البعد عن الشاذ منها مع الكلام عن الطريق إلى بيت المقدس وأهم معالمه والمزارات التي عرجوا عليها نحو المدينة المشرفة.
في أكناف بيت المقدس
من أقدم هذه الرحلات أو الزيارات المغربية التي جاءتنا مبثوثة في بطون الكتب زيارة القاضي الإمام عبد الله بن العربي الذي رحل بطلب وسفارة السلطان المرابطي الأشهر يوسف بن تاشفين بصحبة ولده القاضي أبي بكر سنة 485 هـ/1092 م متوجها إلى الخليفة العباسي المستظهر بالله في بغداد، وذلك قبل احتلال القدس بسبع سنوات على يد الصليبيين.
وصل القاضي أبو بكر إلى القدس، وكان فيها آنذاك الإمام أبو بكر الطرطوشي الأندلسي الكبير من علماء المالكية في الأندلس، وهو كابن العربي كان قد خرج من بلاده في اتجاه المشرق زائرا القدس في طريقه، وفي هذه المدينة المقدسة اجتمع الرجلان وتباحثا في بعض المسائل العلمية.
يقول ابن العربي فيما نقله عنه المؤرخ والأديب المقري في كتابه “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” لقد “تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي في حديث أبي ثعلبة المرفوع: إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم، فقالوا: بل منهم، فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا (1).
لم يفت ابن العربي أن يصف لنا أهم ما شاهده في القدس في ذلك التاريخ قبل ألف عام من اليوم، ويقول “شاهدت المائدة بطورزيتا مرارا، وأكلت عليها ليلا ونهارا، وذكرت الله سبحانه وتعالى فيها سرا وجهارا، وكان ارتفاعها أشف من القامة بنحو الشبر، وكان لها درجتان قبليا وجنوبيا، وكانت صخرة صلودا لا تؤثر فيها المعاول، وكان الناس يقولون: مسخت صخرة، والذي عندي أنها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء، وكل ما حولها حجارة مثلها، وكان ما حولها محفوفا بقصور، وقد نحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها، مقطوعة فيها، وحناياها في جوانبها، وبيوت خدمتها قد صورت من الحجر كما تصور من الطين والخشب، فإذا دخلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة مقدار ثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض، وإذا هبت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب وينفرج منفرج الباب، وقد بار بها قوم بهذه العلة، وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس” (2).
أما الجغرافي اللامع الشريف الإدريسي السبتي (ت 548 هـ/1154 م) فقد صاغ في كتابه الجغرافي العالمي الذي كتبه في القرن الـ12 الميلادي “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” عن زيارته للقدس والمسجد الأقصى، بل إننا نجده يقارن بين المسجد الأقصى ومسجد قرطبة، كما أفاض بالحديث عن كنيسة القيامة الشهيرة في المدينة، وأبدى إعجابه بضخامتها وبنائها.
ويقول عن زوارها “وهي الكنيسة المحجوج إليها من جميع بلاد الروم التي في مشارق الأرض ومغاربها.. وهي من عجائب الدنيا، ولها باب من جهة الشمال ينزل منه إلى أسفل الكنيسة على ثلاثين درجة، ويسمى هذا الباب باب (شنت مرية)، وعند نزول الداخل إلى الكنيسة تلقاه المقبرة المقدسة المعظمة وعليها قبة معقودة قد أتقن بنيانها وحصّن تشييدها وأبدع تنميقها، وإذا خرجت من هذه الكنيسة العظمى وقصدت شرقا ألفيت البيت المقدس الذي بناه سليمان بن داود عليه السلام، وكان مسجدا محجوجا إليه في أيام دولة اليهود ثم انتزع من أيديهم” (3).
مخطوطات لم يكشف الستار عنها بعد
وقد وقف المؤرخ المغربي الكبير الدكتور عبد الهادي التازي على أهم الرحلات المغربية إلى مدينة القدس في عصرها الوسيط، وأكد أنه بعد الشريف الإدريسي تأتي مخطوطة منسوبة لأبي إسحاق إبراهيم المكناسي من رجال القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي، وهي تقع في 61 ورقة، وتنقسم إلى قسمين كبيرين: أولهما فضائل بيت المقدس، وفي هذا النطاق يجد القارئ في هذه المخطوطة كلاما عن اشتقاق بيت المقدس، والترغيب في سكنى بيت المقدس، والمساجد الثلاثة، وحادثة تحويل القبلة، وما جاء في الصخرة المشرفة، ثم الحديث عن فتح بيت المقدس (4).
كما أشار التازي إلى أن من جملة مخطوطات المغاربة القدماء عن القدس وفضائل المسجد الأقصى مخطوطة لمؤلفها نصر الدين محمد العلمي المغربي عنوانها “المستقصى في فضائل المسجد الأقصى”، وهذا المؤلف أدركته المنية في القدس في 10 شوال 656 هـ/أكتوبر 1258 م.
وتأتي رحلة أبي عبد الله محمد العبدري الحيحي في أواخر القرن السابع الهجري (688- 689 هـ/1290 م) من أشهر الرحلات المغربية لمناطق المشرق العربي بما فيها مدن فلسطين، وعلى رأسها القدس والخليل، فقد زار العبدري في رحلته هاتين المدينتين المقدستين بادئا بالخليل ومنها انطلق إلى بيت المقدس، حيث زار في طريقه قبر يونس عليه السلام.
وحين وصل إلى القدس قال “والبلد مدينة كبيرة منيعة، وسورها مهدوم هدمه الملك الظاهر (بيبرس) خوفا من استيلاء الروم عليها، وامتناعهم بها، وبها رباطان متقاربان في غاية الإتقان بنى أحدهما الملك المنصور، وبنى الآخر الأمير علاء الدين الأعمى، وفي كليهما رزق جار للمنقطعين وأبناء السبيل”.
كما تحدث العبدري عن مسجد قبة الصخرة، وهو من المباني العجيبة الموضوعة على وجه الأرض كما يصف، وأغربها وأحسنها صنعة، غير أنه نقد بشدة قبة الصخرة وما فيها من الذهب “وأما الذهب فما رأيته مبتذلا في شيء كابتذاله في هذه القبة”.
ولم يفت العبدري أن يتناول الشؤون العلمية في مدينة القدس في هذه المدة القصيرة التي مكث فيها، ولا سيما مجالس قاضي المدينة آنذاك بدر الدين بن جماعة (5).
هذه نبذة مختصرة عن أهم المغاربة رحالة ومؤرخين وعلماء زاروا المدينة المقدسة عبر عقود طويلة في عصرها الوسيط، لكن للحديث بقية مع رحالة آخرين جاؤوا من بلاد المغرب والأندلس وجعلوا المدينة محط اهتمامهم وتدوينهم، ويأتي على رأس هؤلاء أمير الرحالة في العالم أجمع ابن بطوطة.
* المصادر:
– المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 2/36.
2- المقري: السابق 2/37.
3- الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق 1/359.
4- عبد الهادي التازي: القدس والخليل في الرحلات المغربية ص14.
5- رحلة العبدري، تحقيق محمد الفاسي.
المصدر : الجزيرة