من مميزات الدولة المغربية، على امتداد العصور، حرصها على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي، ما أتاح لها إقامة علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها من تبوُّءِ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى دول كثيرة، ومن فتح قنصليات لهذه الدول على التراب الوطني.
ومن بين هذه السفارات حاضرة الفاتيكان، التي تجمعها بالمغرب علاقات تاريخية مميزة، تكللت بعدد من الزيارات المتبادلة بين ملوك المغرب وباباوات الكنيسة الكاثوليكية، رسخت لعلاقات دبلوماسية وطيدة جمعت الجانبين منذ العصر المرابطي إلى عهدنا هذا.
فما هي أبرز المحطات التاريخية التي أثثت للعلاقات الثنائية بين المغرب والكرسي البابوي بالفاتيكان؟
تعود العلاقة بين السلاطين والملوك المغاربة وحاضرة الفاتيكان إلى عهد الدولة المرابطية (1056- 1147)، وتعززت مع الدولة العلوية حينما بعث المولى الحسن الأول في العام 1888 الحاج محمد الطريس سفيراً إلى البابا ليون الثالث عشر.
وبعدها، بالضبط عام 1956، استقبل السلطان محمد الخامس رئيس الأساقفة بالمغرب أميدي لوفير والأب دوني مارتن، كما أوفد رئيس الحكومة وقتها، عبد الله إبراهيم، إلى روما للقاء البابا عام 1960. وستعرف هذه العلاقة طفرة كبرى مع الملك الراحل الحسن الثاني في محاولة لتعزيز الحوار بين الإسلام والمسيحية، وإشاعة قيم التسامح والتعايش بين الأديان.
وفي عام 1976 تم التأسيس رسميا للعلاقات الدبلوماسية بين المغرب والكرسي الرسولي، من خلال افتتاح السفارة البابوية في الرباط، قبل أن يقوم الملك الراحل، الحسن الثاني، عام 1980، بأول زيارة رسمية له للفاتيكان، واعتُبِرَ حينها أول قائد عربي ومسلم يزور الفاتيكان.
وبعد أربع سنوات من زيارة الملك الراحل دولةَ الفاتيكان، صدر ظهير ملكي يؤكد “مركزيةَ الكنيسة الكاثوليكية بالمغرب، وحقَّها في ممارسة مهامها بحُرّيّة خاصة في ما يتعلق بالعبادة، والتعليم الديني، وإنشاء إطار قانوني للتعايش السلمي بين المسلمين والكاثوليك”؛ وهو ما تلته في سنة 1985 زيارة البابا يوحنا بولس الثاني للمغرب بدعوة رسمية من الملك الراحل الحسن الثاني.
وأثناء هاته الزيارة، شدَّ قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني أنظار العالم إليه وهو يقبل الأرض المغربية لحظة نزوله من الطائرة تحية وإجلالا؛ المشهد الذي خلد هذه الزيارة في أذهان المغاربة قاطبة، قبل أن يشارك إلى جانب الملك الراحل الحسن الثاني في إلقاء خطاب تاريخي عن الإسلام والمسيحية، في المجمع الرياضي محمد الخامس في الدار البيضاء، أمام حشد من 80 ألف شخص. وفي تلك المناسبة دعا قداسة البابا المسيحيين والمسلمين إلى تعارف أفضل من أجل بناء السلام، وحضّ أيضاً على الإخاء والحوار.
ولتوطيد العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين أكثر فأكثر، عمل الحسن الثاني، رحمه الله، خلال عام1997، على افتتاح سفارة مغربية لدى الكرسي الرسولي بالفاتيكان، قبل أن يعتلي صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين ويقوم بأول زيارة رسمية له للفاتيكان عام 2000.
والتقى جلالته خلال هذه الزيارة، قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الذي نوه حينها بالخيارات الطموحة للملك الشاب لتحديث المملكة وتعزيز قيم الإسلام المتسامح والمعتدل، وحفظ حقوق الأقليات الدينية في ممارسة حرية معتقداتها داخل المملكة الشريفة.
وبعد تعيين صاحب الجلالة محمد السادس للأكاديمية والدبلوماسية المغربية، رجاء ناجي مكاوي، سفيرة للمملكة المغربية بالفاتيكان، في غشت 2018، قام البابا فرانسيس الأول عام 2019، بدعوة من صاحب الجلالة، بزيارة رسمية كانت الأولى له للمغرب، تمحورت فعالياتها حول الحوار بين الأديان وقضايا المهاجرين، والتوقيع على نداء القدس.
وعلى مدى السنوات الأربعة التي مضت على هذه الزيارة، التي حظيت بتغطية إعلامية دولية، ورحبت بها شخصيات سياسية ودينية بارزة من جميع أنحاء العالم، دائما ما يحرص قداسة البابا فرانسيس على التعبير عن تقديره العميق واحترامه المميز لشخص جلالة الملك، نصره الله.
وفي هذا الصدد، تقول السيدة رجاء ناجي مكاوي: “في كل مرة التقيت به لا يكف عن التعبير بكلماته وإيماءاته عن إعجاب استثنائي بجلالة الملك وبمؤسسة إمارة المؤمنين التي يعتبرها مؤسسة فريدة من نوعها في العالم، مؤهلة لحماية جميع المؤمنين، خاصة في إفريقيا”. كما لا يتردد البابا في الإشادة بالعلاقات “القوية والمتميزة والمثالية” بين الكرسي الرسولي والمملكة المغربية الشامخة.