قديما قال فولتير إن “القراءة تغذي الروح”، لكن نسبة القراء تتضاءل تدريجيا، وهو ما تشهد عليه الإحصائيات الرسمية التي تشير إلى المغاربة يخصصون بالكاد 57 ساعة للقراءة في السنة الواحدة.
على أن زمنا طويلا مضى والناشرون والمثقفون والمسؤولون يطلقون جرس الإنذار: المغاربة لا يقرؤون كثيرا في ما يبدو أنها “أزمة” قراءة تتفاقم سنة بعد أخرى على الرغم من الجهود التي تبذلها السلطات العمومية وبعض المبادرات المعزولة للمجتمع المدني التي ينتهي مفعولها سريعا.
وفي الوقت الذي يحتفي فيه العالم يوم 23 أبريل باليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، تطفو إلى السطح مرة أخرى الأسئلة نفسها بخصوص أسباب الفراق بين المغاربة والكتاب: هل يعزى ذلك إلى غياب الإرادة السياسية واستراتيجية عمومية مهيكلة، أم إلى تراجع القدرة الشرائية، أم إلى عدم اهتمام الشباب بالكتاب بسبب استسلامهم أمام إغراء التكنولوجيا؟
– أزمة قراءة أم أزمة ثقافة
تقول نادية السالمي، المديرة العامة لدار النشر (يوماد) المتخصصة في أدب الناشئة ورئيسة جمعية “الآداب المرتحلة”، إن لدينا فكرة خاطئة عن ما نسميه “أزمة قراءة”. وتضيف في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء “بالنسبة لي، الأزمة الحقيقية هي أننا لا نقوم بشيء تقريبا لتحفيز الناس على القراءة”.
وتشير في هذا الصدد إلى تظاهرة “الآداب المرتحلة” التي بادرت إلى إطلاقها بغية تقريب الكتاب من القراء من خلال تنظيم لقاءات مع الكتاب، والتي شارك في دورتها الرابعة سنة 2022 أربعون كاتبا من 14 بلدا.
تقول السالمي “عندما أطلقنا الحدث، لم نكن ننتظر نجاحا من هذا النوع: في ظرف ساعتين فقط، تمكنا من تجميع عشرة آلاف شخص. وهذا دليل على أنه إحداث تغيير يتطلب إيصال الكتب إلى الناس وليس العكس”. على أن الكاتب والصحفي والناشر، عبد الحق نجيب، لا يشاطر السيدة السالمي وجهة النظر هذه. فدار النشر “أوريون” التي يديرها نظمت سنة 2020 حملة للتشجيع على القراءة بهدف توزيع 25 ألف كتاب في الوسط المدرسي. “لم نتمكن من تحقيق هذا الهدف، لأنه وببساطة، لم يكن بعض مديري المدارس يرغبون في أن نهدي كتبا للتلاميذ مجانا ليتذوقوا طعم القراءة خلال فترة الحجر الصحي. بل إن أحدهم قال لي بكل إنني كنت لأكون أكثر نباهة لو أنني أحضرت (سندويتشات) وليس كتبا”.
يقول نجيب إن “هذا النوع من السلوكيات ينم عن غياب ثقافة القراءة لدى جزء كبير من مواطنينا. فالكتاب غائب عن عادات المغاربة”، مشيرا بإصبع الاتهام إلى “السياسات الثقافية ووسائل الإعلام التي تعطي حيزا كبيرا للسلاسل التلفزية وبرامج الترفيه والحفلات، ولا تحمل هم الكتاب إلى نادرا”.
– التكنولوجيا في خدمة الكتاب
وإذا كانت القراءة تعرف تراجعا تدريجيا في صفوف الكبار، فإنها تبدو “مسألة غريبة” بالنسبة للناشئة. فقد كشف تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في يونيو 2019 حول “النهوض بالقراءة : ضرورة ملحة” أن “أقل من 3 في المائة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و 14 سنة فقط هم من يقرؤون ، بينما يقضون في المتوسط ثلاث ساعات يوميا في مشاهدة التلفاز”، وأن “38 في المائة من أطفال المدارس المغربية يتوفرون على كتب في منازلهم، مقابل 61 في المائة لا يتوفرون عليها”.
وبالنسبة لعبد الحق نجيب، فإن “شبكات التواصل الاجتماعي ونيتفليكس، وغيرها أرست نمط استهلاك ثقافة سريعا يحبذ السرعة والسطحية وحتى التفاهة على أي شيء يشجع على التفكير ومناقشة الأفكار”.
لكن، ماذا لو جعلنا الإنترنت جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة؟ هذا ما تطرحه نادية السالمي التي ترى أنه من العملي أكثر أن نبدأ بتحسيس الناشئة بأهمية القراءة عبر الإنترنت لمساعدتهم على “كسر القطيعة” مع الكتاب.
تقول السالمي “إذا أراد طفل أو مراهق قراءة نص على هاتفه الذكي ، فهذا أمر جيد. المهم هو أن يخطو هذه الخطوة الأولى، وعند ذلك لن يتأخر مفعول سحر القراءة، ففي يوم أو في آخر سيلجأ إلى الكتاب الورقي. في رأيي، فإن الكتاب الورقي والرقمي يكملان بعضهما البعض، ولا ينبغي أن يلغي أحدهما الآخر”.
– من أجل بيئة سوسيو-اقتصادية صديقة للكتاب
وأمام الإغراء القوي الذي تمارسه المنصات الرقمية من قبيل نيتفليكس وفيسبوك وانستغرام وتيكتوك باعتبارها منصات للترفيه سهلة الولوج، يبرز الدور المهم للبيئة السوسيو-اقتصادية في إخراج الفرد من هذه الدوامة التكنولوجية التي تسحبه يوميا وإعادته إلى الكتاب الذي يعد مصدر غذاء للعقل والثراء والهدوء.
وتقول نادية السالمي إن المكتبات العمومية ومكتبات الأحياء تبدو، في هذا الصدد، وسيلة ممتازة لجعل الكتب أكثر بروزا في الفضاء العام وتقريبه من مختلف الفئات الاجتماعية، وخاصة تلك التي لا تستطيع الإفادة من هذا “الترف”.
وتضيف “للأسف، هذه البنيات نادرة، وعندما تكون موجودة، فإنها تكون متهالكة وغير منظمة لدرجة أنها لا تغري المرء بأن يطأ بقدميه هناك. المكتبة ليست مقبرة يتم رص الكتب في رفوفها وتركها تواجه مصيرها. إنها فضاء للحياة والتفتق يفترض أن يديره شخص مهني متخصص في تدبير المكتبات”.
وبحسب عبد الحق نجيب، فإن البيئة الاقتصادية هي عامل آخر يجب أخذه في الاعتبار. ويدعو في هذا الصدد إلى “إرساء صناعة للكتاب بشكل تكون معه قطاعا مربحا، وسلسلة إنتاج وتوزيع تدبر بشكل جيد، وسوقا حقيقية، وحماية فعالة لحقوق التأليف والنشر ضد الانتحال والقرصنة”.
وفي واقع الأمر، فإن الكتاب يشكل واحدا من افضل الاختراعات البشرية. وأن يفتح المرء كتابا يعني أن يفتح قلبه وعقله لتجارب ووجهات نظر أخرى للعالم. وفي هذا الصدد يشكل اليوم العالمي للكتاب دعوة مفتوحة للاستسلام لسحر هذا الكنز سهل الولوج والإفادة من مزاياه. وكما قال فيكتور هيجو “النور موجود داخل الكتاب. افتحوه على مصراعيه. ودعوه يشع”.