حاورتها فوزية طالوت المكناسي
لما قابلت بهيجة كومي أول مرة شعرت وأنا في جانبها بشيء من الأمان، معاملتها لي كانت مليئة بالدفيء والحنان، نبرة صوتها هادئة ومرحة .
بهيجة الإنسانة هي سيدة متزوجة وأم لثلاثة أطفال، لا أدري ما هو الأهم في تقديم هاته السيدة الاستثنائية ؛هل الحديث أولا عن الكاتبة والشاعرة أم عن الأستاذة والمكونة مند 1994، أم عن رئيسة الجمعية الوطنية أمل لمرضى ﺳﺭﻁﺎﻥ ﺍﻟﺩﻡ (ﺍﻟﻠﻭﻛﻳﻣﻳﺎ).
مهنتها كمدرسة في شعبة الإدارة والاتصال، وفي تأهيل دورات أقسام BTS ب بمراكش، و كمستشار ومدرب في مجال الاتصال وتقنيات التعبير والعلاقات المهنية والتنمية البشرية لمدة 19 سنة منحتها القدرة على تمرير أفكارها بطريقة مؤثرة وفعالة.
هي فاعلة جمعوية وعضو في العديد من المنظمات غير الحكومية المغربية والأجنبية، كما تتقلد منصب ممثل إفريقيا وعضو اللجنة التوجيهية لشبكة CML Advocates وأحد مؤسسي CML Life Africa في أكتوبر 2012 في دار السلام بالعاصمة التنزانية.
تم تكريمها في عدة مناسبات اعترافا لها بالدور الذي تلعبه كمدرسة وعن عملها كناشطة في المجتمع المدني. الحديث معها شيق لا ينقصه شيئٌ من المرح لكنه ومع مرحه تجد فيه جدية فائقة وتحليلا عميقاً لمجريات الأحداث وتفسير الوقائع.
مجلة فرح تستضيف اليوم في ملفها لشهر نونبر الكاتبة والشاعرة والمدرسة والمناضلة عن الحقوق الصحية السيدة بهيجة كومي، في حوار ممتع ومفيد حول مسيرتها وموضوع الرعاية الصحة بما فيها الصحة الإنجابية للمرأة.، إليكم الحوار:
مجلة فرح : مجلة فرح تود أن تبدأ معك هذا اللقاء انطلاقا من آخر حدث، الأ وهو حصولك وحصول جمعية أمل لمرضى اللوكيميا على المرتبة العالمية الأولى لمنظمات مرضى سرطان الدم. ماهي أهمية هذا التتويج بالنسبة لك ولجمعية أمل؟
بهيجة كومي: تحية جمعوية عالية، أشكر مجلة فرح على كريم الاستضافة. جاء هذا التتويج في إطار فعاليات الدورة العشرين للمؤتمر العالمي “آفاق اللوكيميا” 2022 Horizons CML ، والذي تنظمه “منظمة مرضى اللوكيميا” المتواجدة بسويسرا والتي تضم 128 منظمة خاصة برعاية مرضى سرطان الدم )اللوكيميا( متواجدة ب 93 دولة. حصلت جمعية أمل لمرضى اللوكيميا على الرتبة الأولى عن مشروعها الإنساني النبيل “دار الأمل” لإيواء مرضى السرطان ومرافقيهم، القادمين من مناطق قروية أو مدن بعيدة عن المستشفى الجامعي محمد السادس بمراكش قصد متابعة العالج. وهو مشروع أنجز كاملا من قبل المجتمع المدني 100 بالمائة. ويهدف هذا المركز إلى توفير السكن لمرضى السرطان ومرافقيهم لضمان الحق في العالج لجميع الفئات وتحسين نسب الشفاء بالمغرب والتخفيف من المعاناة المادية والنفسية لداء السرطان لدى الفئات الهشة والحد من التنقلات المتكررة والمكلفة التي تثقل كاهل المرضى وأسرهم وإلى تشجيعهم على متابعة العالج في ظروف صحية وإنسانية جيدة تضمن لهم رعاية شاملة وعادلة تصون كرامتهم. تكمن أهمية هذا التتويج في ظرفية ومكان الحصول عليه، حيث احتفل المؤتمر هذه السنة بالذكرى العشرين لتأسيسه وكونه أول مرة ينظم خارج أوروبا بمدينة مراكش الحمراء، والذي عملت سنوات ليحتضنه المغرب من خلال منصبي كعضو المجلس التنفيذي والمجلس الاستشاري وممثلة الشرق الأوسط وإفريقيا بهذه المنظمة. فرحتي بهذا الإنجاز تفوق كل تصور رغم أنه معنوي وليس مادي، ألن التتويج حصلت عليه ببلدي المغرب، سبق وأن فزت بالرتبة الأولى سنة 2009 بالبرتغال، وبالرتبة الأولى سنة 2012 بألمانيا، وبالرتبة الأولى سنة 2021 بشكل افتراضي. إلا أن طعم النجاح بمراكش بأكتوبر 2022 سيبقى موشوما بكل معاني الفخر والاعتزاز وسيؤرخ لسنوات من التضحيات والعمل الجمعوي الجاد والهادف.
فرح: بهيجة كومي وجه مألوف وشخصية معروفة في مجال المجتمع المدني، لقد نِلتِ العديد من الجوائز منها جائزة المجتمع المدني في دورتها الأولى، من هي بهيجة وكيف ولماذا تحملين كل هذا الالتزام؟
بهيجة كومي: أنا من مواليد مدينة تازة، متزوجة، أم لثالثة أبناء، خريجة المدرسة العليا أساتذة التعليم التقني بالمحمدية، أستاذة بالسلك التأهيلي الثانوي منذ 1994 وأستاذة بأقسام شهادة التقني العالي منذ 2007 بمدينة مراكش. سنة 2002 اكتشفت إصابتي باللوكيميا (سرطان الدم) وأنا حامل بابني الثالث، انهار كل شيء أمامي خصوصا أن الدواء لم يكن متوفرا بعد في المغرب وكان السرطان بمثابة وصمة عار، ال أحد يتكلم عنه، في غياب تام للمعلومات الصحيحة وللدعم Translation is too long to be saved .وأسرهم المرضى برعاية مختصة ولجمعيات النفسي كانت حياتي طبيعية حتى تم تشخيص إصابتي بالسرطان. وانقلبت الطمأنينة إلى خوف وقلق دائمين. كنت أصرخ داخلي: لم أنا؟ لم أنا؟ … أصبحت معاناتي مضاعفة، كنت مرعوبة من هذه الكلمة الجديدة “السرطان” ومن فقدان ابني الذي لم يولد بعد. شعرت بالضياع التام، ظننت أنني سأموت وأترك أطفالي وزوجي وكل من أحب. أذكر حينها عندما سألت طبيبة ببهو المستشفى عن هذا المرض الغريب، عن هذه اللوكيميا، وماهي فرص النجاة منها، فكان ردها صاعقا، أكدت لي أنه لم يبق في مصعد آخر مليء بمشاعر أليمة: صدمة، إنكار، في رصيدي سوى ثالث سنوات لأعيش وركبت المصعد، وتركتني عالقةً حزن، فقدان السيطرة، شعور بالذنب، إحباط، غضب، … بعد جلسات مطولة مع ذاتي، أيقنت أنى أنا من يجب أن يساعدني لا غير، ال بد من تقبل الأمر والبحث عن خيارات العالج وفهم المرض حتى أتمكن من تجاوز كل هذا الألم النفسي ألن التعافي من السرطان ال يقتصر على العالج الجسدي فقط. واجهتني تحديات كثيرة منها مركزية العالج، السفر من مدينة إلى مدينة أخرى لزيارة الطبيبة المعالجة، لإجراءات التغطية الصحية والتدابير الإدارية الطويلة والمتكررة ولاقتناء الدواء من اسبانيا. فهمت أن السرطان يتطلب مصاريفا باهظة، لا يمكن للعديد من المرضى والأسر تحملها في غياب لتغطية صحية شاملة، فهمت أن السرطان يستوجب متابعة طبية دقيقة وانضباط صارم في تطبيق خطة العالج واحترام المواعيد وإجراء الفحوصات والمراقبة الطبية. بدأ ُت بمساعدة ودعم المرضى بشكل شخصي حتى نضجت فكرة تأسيس جمعية لدعم ورعاية المرضى المصابين مثلي وتمكينهم من الاستفادة من التجارب التي راكمتها خلال فترة العالج الممتدة أكثر من 20 سنة. هنا أخذ سؤال “لم أنا” بعدًا آخر. فهمت أنني أصبت بالسرطان ليستخدمني الله لدعم ومساندة المرضى ومرافقيهم، شعرت بالمسؤولية وقررت أن أكرس حياتي لخدمة مرضى سرطان الدم ببلدي حتى يتم علاجهم بكرامة. تم تأسيس جمعية أمل لمرضى اللوكيميا والتي تهدف إلى دعم المصابين وتخفيف الألم والمعاناة والعمل على تبسيط الإجراءات فيما يتعلق بالفحوصات والمراقبة الطبية والاستشفاء وتفعيل كل الآليات التي تساهم في توفير جميع الأدوية لجميع المرضى. كما تسعى جمعية أمل للتعريف بالمرض والعمل على توفير المعلومات الكافية والتوجيه الصحيح وتكفل أفضل لمرضى سرطان الدم بالمغرب، بدءا بالتثقيف الصحي حول سبل العالج وتتبع المرض والعمل
على التواصل والتوعية وتعبئة جميع الفرقاء لجعل السرطان من أولويات الصحة العمومية بالمغرب.
فرح :الصحة الإنجابية تعد من مقتضيات حقوق المرأة، لكن النساء يواجهن تفاوتا وعدم مساواة في خدمات الصحة الإنجابية، انطلاقا من تجربتك القيمة في ميدان الرعاية الصحية ماهي أهم التدابير التي يجب على المرأة القيام بها لحماية صحتها الإنجابية؟
بهيجة كومي: من خلال تجربتي في مجال الرعاية الصحية، أرى أن النساء بشكل عام، والقاطنات بالقرى والمدن الصغيرة بشكل خاص يواجهن تحديات في الخدمات الصحية لللإنجاب من ضمنها مركزية العالج، البعد عن المراكز الصحية، الافتقار إلى التغطية الصحية الشاملة، الأمية، الجهل التام بالإجراءات الصحية لضمان سالمة الفتاة والأم والطفل وانعدام التثقيف الصحي الفعال والمستهدف وغير الموسمي للصحة الإنجابية وما يترتب عنه. لكي تنعم كل فئات النساء بكل الأعمار بحياة كريمة وصحية، لا بد من مواكبتها منذ الصغر بترسيخ تربية صحية وجنسية سليمة تعرفها ليس فقط بنفسها وبجسدها وخلو الأمراض منه، إنما حتى بالعناية النفسية والعقلية والاجتماعية لأن الصحة الإنجابية للمرأة هي جزء لا يتجزأ من الصحة العامة. للمرأة كل الحق باتخاذ قرار الإنجاب وتوقيته، وبالتالي يجب على المرأة أن تهيئ لظروف حملها وأن تتوجه إلى المركز الصحي القريب منها لتلقي الخدمات الصحة الإنجابية المتوفرة وتنظيم الأسرة والاستفادة من النصائح والإرشادات، والرعاية الجيدة، والدعم النفسي الذي تحتاج إليه، ومرافقتها أثناء تتبع حملها. وتقديم المشورة الزواجية كذلك. كما يمكنها الاستفسار عن كيفية تتبع الحمل والتغذية السليمة والمواكبة الطبية والتطعيمات الازمة وطرح كل الأسئلة لديها حتى تطمئن ولا تنزعج من كل التغييرات الجسدية التي تطرأ على جسدها خلال فترة الحمل وبعده لضمان سالمتها وسالمة ﺟﻧﻳﻧﻬﺎ.
فرح : الأستاذة بهيجة، تكلمنا عن التربية وعن عملك في ميدان الرعاية الصحية. هل لنا أن نتحدث قليلا عن الشاعرة والكاتبة؟ ماهي أعز قصيدة على قلبك وما هي ظروف كتابتها؟
بهيجة كومي: علاقتي بالكتابة والشعر رافقتني منذ طفولتي ووَطَّدَهَا بائع الكتب والمجلات المستعملة القريب من بيتنا العائلي، كنت أقصده كلما استكملت الدرهم الواحد لاستبدال كتابي المستعمل القديم بكتاب مستعمل جديد. كان هو يسعد لدرهمي وأنا أسعد لكتابه. لا أخفيكم أن هذه العادة فتحت بوابة كبيرة للخيال وعشق الكلمة والمعنى والأسلوب وتدفق الأفكار داخل رأسي الصغيرة وانفتاحي على عوالم جديدة.
أقر يقينا أن الكتابة هي أجمل حرية وأعترف أن فضل الكتابة عَلَيَّ كبير… هي معادلة الحياة والنجاة وهي بدون شك ضرورة في كثير من الأحيان، هي أعمق وأصدق متعة وأكثر من هذا وذاك هي خلاص وعلاج، جعلني أتخطى كثيرا من الألم في تجربتي الشخصية.
الكتابة جعلتني أتحرر وأومن بالولادة من جديد بعد إصابتي بسرطان الدم. الكتابة جعلتني أتخلى عن ذاك الإهمال المزمن الذي جردني من أحلام الصبا البريئة. كتبت لنفسي لأداويها ولأعالجني وأتخطى ذاك الألم الحاد بداخلي.
حقيقة، من الصعب أن يكتب الإنسان عن نفسه وعن تجربته الشخصية خصوصا عندما يتعلق الأمر بمرض السرطان الذي يرتبط بالمعتقدات والمعلومات المغلوطة وعقدة الجسد في الموروث الثقافي مما يفسر قلة الإصدارات في هذا الباب، فالقليل في الوطن العربي من تجرأ وكتب عن تجربته مع السرطان. أتمنى أن تكون كتاباتي حرية وتحررا، حياة وخلودا، توبة وعبادة، شكرا وامتنانا، بلسما وشفاء لكل الجروح…كما أتمنى صادقة أن أكون ممن ساهموا في التأسيس لهذا الأدب؛ أدب الألم، أدب المرض… بل أدب الشفاء من كل بلاء وداء…
كل قصائدي أعتز بها وهي بمثابة أبنائي لأنها رأت النور من داخل أحشائي. لكن، تبقى قصيدة “صاحبي لخضر” بالدارجة المغربية الأقرب إلى قلبي، أحكي فيها عن قصتي مع كرسي الانتظار، الذي كان يستقبلني بحديقة المستشفى، حينما كنت أهرب من قاعة الفحص، ومن المعلومات الطبية والعلمية المعقدة، ومحادثات المرضى حول السرطان، وهرولة الممرضات في ممرات المستشفى وأحيانا كنت أهرب حتى مني…
أشكر “صاحبي لخضر” بالمناسبة، لأنه كان نعم الصاحب ونعم المضيف، يكفكف دموعي ويؤنس وحدتي وينصت إلي دون أحكام أو انتقاد.
فرح : ماهي أهم إصدارتك وما هو جنسها الأدبي؟ اعطينا بعض العناوين؟
بهيجة كومي: في رصيدي الآن أربعة كتب أعتز بتأليفها تحكي عن تجربتي الإنسانية المتواضعة وما استخلصته من عبر ودروس في الحياة، أطرحها للناس ليستفيدوا منها حتى يقدروا ما عندهم قبل فوات الأوان. وقد كتبت في الأجناس الأدبية التالية: النثر والشعر والمقالات التي تصب في مساندة مرضى السرطان ودعم الأسر والترافع لإثارة المواضيع التي من شأنها تلبية حاجيات المرضى من أجل رعاية شاملة وعادلة للجميع.
سنة 2008، صدر لي “آلام من أجل الحياة” باللغة الفرنسية بفرنسا، وصدر بالمغرب كل من ديوان شعر باللغة العربية “سرطان الحبر” سنة 2012، “أخاف أن أشفى” باللغة الفرنسية سنة 2014 وديوان شعر “جنون الكروموسوم” باللغة العربية سنة 2020. وأنا الآن بصدد إنهاء ديوان زجل سيصدر حديثا.
أشكر مجلة فرح على كريم الدعوة.