خناثة بنونة
علاء البكري
لا غرو أن الخوض في مسألة الحديث عن كاتبة مغربية كان يعد ضربا من الخيال في مرحلةِ ما قبل استقلال المغرب وبعده بقليل، إلا أنه بالفعل منذ ثلاثينات القرن الماضي كان هناك نساء من طينة الكاتبة مليكة الفاسي وآمنة اللوه وثريا السقاط ممن اخترن الكتابة كأداة ووسيلة لإيصال أصواتهن، سواء للصراخ في وجه المستعمر الغاشم، أو للإفصاح عن هموم المرأة المغربية حينئذ، أو للدفاع عن حقوقها. وامتد هذا الحضور النسوي – وإن على قلته – إلى العقد الستيني، حيث برز جيل جديد من الكاتبات الشابات اللاتي دخلن غمار الكتابة الروائية والقصصية وعالجن نفس مواضيع المرحلة السابقة وأكثر، تتقدمهن فاطمة الراوي (باحثة الحاضرة) بروايتها “غدا تتبدل الأرض” والصادرة سنة 1967 كأول رواية تكتبها امرأة. والكاتبة زينب فهمي التي كانت تتتَقنَّع باسم رفيقة الطبيعة وصاحبة المجموعة القصصية “رجل وامرأة” الصادرة سنة 1969، إلى جانب الرائدة خناثة بنونة صاحبة أول مجموعة قصصية تصدرها امرأة في المغرب سنة 1967 تحت اسم “ليسقط الصمت” ، هذه النخلة الشامخة التي لا تزال إلى اليوم تمد الكتابة الصحافية والروائية والقصصية بوارف ظلها، هي من سنتشرف بالحديث عنها في هذه الورقة.
نخلة مغربية ألقت بعروشها ظلالا في دروب الكتابة النسائية بالمغرب، فكانت من الرعيل الأول للأديبات المغربيات اللائي خطون في درب الكتابة الصحافية والقصصية والروائية، وأول امرأة تُصدر مجلة نسائية ثقافية في المغرب، في وقت كانت فيه الكتابة حكرا على الرجال فقط. فلم يكن غريباً أن تكون من أوائل النساء المغربيات اللواتي ملكن جرأة الوقوف في وجه العادات البالية والتقاليد السائدة، ورفضت أن تنتصب هذه العادات والتقاليد المتحجرة في طريق المرأة المغربية.
وأدبيّاً، شكل مسارها ملحمة إبداعية رائدة منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، إلى جانب مناصرتها للقضايا الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية، سيما القضية الفلسطينية. وقالت في هذا الصدد: “قضيتي ليست قضية التحدي وإثبات الذات، أنا امرأة عادية، صادقة في اختياراتي، متبنية قضايا وطني وقضايا هذه الأمة”. ووصفت نفسها يوماً بكونها: “نخلة مغربية طالعة من تراب هذه الأرض، سامقة لا أستظل لا بظل أوروبا ولا أمريكا، مع أني أعترف بأني تلميذة للفكر والإبداع الإنساني أينما كان”.
فمن تكون هذه النخلة المغربية السامقة التي قال الزعيم علال الفاسي “هذه ابنتي وابنة المغرب وقرة عيني”؟
في حي باب الخوخة بالمدينة الإدريسية فاس، وتحديدا في الرابع والعشرين من شتنبر عامَ أربعين وتسع مئة وألف، قدمت إلى الحياة الكاتبة والروائية والمربية والمناضلة خناثة بنونة وسط عائلة محافظة مناوئة للاستعمار الفرنسي، وسُميت خناثة تيمنا بجدتها خناثة العمرانية، وكانت البنت الوحيدة ضمن إخوتها الرجال الأربعة.
كانت من القليلات اللواتي حظين بحق التعليم في زمن المستعمر، بعد أن رفضت الزواج وهي في سن مبكرة. وساعدها في ذلك والدها الروحي الزعيم الراحل علال الفاسي حينما حال تدخله لدى والدها دون زواجها، فأتمت دراستها الابتدائية والثانوية بفاس، قبل أن يقودها تفوقها الدراسي إلى الانخراط في سلك التعليم أستاذةً بمدرسة باب الحديد بالعاصمة الرباط، ثم مديرةً لثانوية “وَلاَّدَة”” في مدينة الدار البيضاء أواخر عام 1968.
خلال مسارها الفكري والأدبي عملت الأيقونة خناثة بنونة من خلال قلمها على إيصال صوت المرأة المغربية والعربية، ونفض غبار الذل والهوان الذي كانت تكابده في مجتمع ذكوري لم يكن فيه للمرأة صوت تعبر به عن ما يختلج في فكرها، معتمدة في ذلك على قوة الكلمة، رغبة منها في إنصاف الضعفاء والمعذبين أينما وجدوا، فهي لم تتوان في دعم قضايا عدد من الشعوب المظلومة في العالم الإسلامي، من البوسنة والشيشان إلى أفغانستان إلى اللاجئين الصوماليين. لا سيما القضية الفلسطينية، فقد ربطتها بالقضية الفلسطينية زيارتها للقدس مع والدها أثناء طريقهما لأداء مناسك الحج وهي ابنة عشر سنوات. وفي تلك الرحلة وجدت كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون”، وأثر فيها، وشكل لديها وعيا نضاليا قوميا، وأشعل حماستها للمنافحة عن الدين والهوية والتاريخ . هذا وتبرعت بالقيمة المالية الكبيرة لجائزة القدس التي حصلت عليها عام ثلاثة عشر وألفين في سلطنة عمان لـ”بيت مال القدس”، قائلة “مال القدس يرجع إلى القدس”.
وفي هذا الصدد يقول الأديب المغربي عبد الجبار السحيمي عنها وعن دعمها للقضية الفلسطينة : “أعرف أن كل رصاص إسرائيل، منذ الوعد، اخترق جسدك الطفل، لكنه لم يقتل عنادك الذي تجسدين به، عناد ومكابرة كل هذه الأمة التي كل ما انتفضت روحها أجهضتها الأئمة، حلمك عصي على الاختراق … ويدخل أطفالك، أطفال الحجارة قبورا بلا كفن، ولا قراءة الفاتحة وتصبح فلسطينك، منديل ورق في ماخور الأنظمة العربية، هكذا تتهاوى تماثيلك أيتها الشقية بالفهم : حد البهلان”.
بدأت خناثة مسيرها في ساحة الأدب بكتابة الشعر. ومن ثم تحولت إلى كتابة القصة القصيرة ثم الرواية. وقبل هذا وذاك أسست خناثة بنونة في سنة 1965 مجلة ‘الشروق’ كأول مجلة ثقافية نسائية في المغرب وثانية في العالم العربي بعد مجلة روز اليوسف في مصر.
وأصدرت كاتبتنا العديد من الإصدارات التي تنوعت مابين المجموعات القصصية والروايات دشنتها بالمجموعة القصصية (ليسقط الصمت) سنة 1967 لتكون أول مجموعة قصصية نسائية بالمغرب، لامست المجال المهم والحساس لدى خناثة ولدى بنات جيلها، ألا وهو مجال حرية المرأة الذي كان مسيَّجا بالتقاليد الرثة والأعراف المحافظة، ويشكل تابو، ومنطقةً حمراء. وقد اخترقت خناثة من خلال هاته المجموعة القصصية الخطوط الحمراء وانتهكت التابو الاجتماعي بكل جرأة وهمة وثقة. ولم يفوِّت العلاَّمة الراحل عبد الله كنون فرصة التعليق على هذه المجموعة القصصية قائلا : “أصدرت خناثة بنونة كتاب ليسقط الصمت وهو كتاب من أدب القصة، يتناول موضوعاته من صميم الواقع المغربي والعربي، هذا الواقع الذي ترفضه الكاتبة وتعتبره مسخا للإنسانية وتزييفا للمثل والأخلاق، ومن ثم فهي تتداعى مع أفكار الطوباويين وأحلام الفلاسفة التي لم يجد المصلحون من قديم الزمن عزاء فيما عداها(…). وبعد سنتين من هذا الإصدار القصصي النسوي الأول من نوعه، قامت بإصدار أول رواية نسائية مغربية تحت مسمى (النار والاختيار) قدم لها الراحل علال الفاسي، وفيها تبرز صورة المرأة المغربية الشامخة والملتزمة التي تضحي بالزواج في سبيل الكفاح والنضال من أجل المبادى والمواقف، وتدعو الروائية أيضا إلى العمل والجهاد من أجل نسيان الهزيمة العربية والسير إلى تحرير الأرض – في إشارة إلى أرض المقدس – وليس إلى الشكوى والتضمر. ويقول الكاتب والأديب الليبي أمين مازن عن هذا العمل الروائي : “لقد آثرت هذه الكاتبة أن تزاوج بين قضيتين في هذه الرواية، قضية المرأة التي تضيق ذرعا باختيارات أهلها لشريك الحياة، أو حتى الأحلام، واختيارها الشخصي لعذا الفارس وقضية الواقع العربي المؤلم الذي أطل بوجهه عقب نكسة يونيو، التي لم تستطع الصمود ولو لفترة بسيطة أمام تلك الهجمة الشرسة. إن ليلى الشخصية الأساسية في الرواية، هي التجسيد الحقيقي لموقف خناثة بنونة من ذلك الواقع الدائر بين مختلف الأجيال، التي يتشكل منها المجتمع، وعبر الصراع اليومي الحاد، تتضح الكثير من الغالبة (…). وتعد رواية “النار والاختيار” أشهر أعمال خناثة بنونة إذ نالت عليها الجائزة الأدبية الأولى في البلاد وقدمتها كهدية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما قررت وزارة التربية الوطنية بالمغرب تدريس هذه الرواية بجميع ثانويات المغرب. وتوالت بعد ذلك إصدارات خناثة ، ففي العام 1975 أصدرت مجموعة قصصية ثالثة تحت اسم (الصورة والصوت)، ثم في العام 1979 نشرت مجموعة قصصية رابعة بعنوان (العاصفة)، وأنتجت (الغد والغضب) في عام 1984 وهي رواية طبعت مرات عدة في المغرب, وبعض من الدول العربية كالعراق وليبيا. وفي سنة 1987 أصدرت كتابا بمسمى (الصمت الناطق)، وفي العام 2006 نشر لها (الحب الرسمي)، وصدرت لها (الأعمال الكاملة) سنة 2008 كأول أعمال كاملة لأديبة عربية ، ثم أصدرت في العام نفسه كتاب (ذاكرة قلم).
وقد أثنى علال الفاسي على روح الكتابة وجرأة الجرأة التي كانت تمتلكها خناتة بنونة في كتاباتها فقال : “أؤكد أنني لم أقرأ لكاتبة عربية ما يضاهي قصص خناثة بنونة قوة وإيمانا”.
وقد حظيت خناثة بنونة خلال مسارها الفكري والنضالي بعدد من التكريمات تجاوزت التسعين تكريما، من جهات أدبية وأكاديمية مختلفة، وحصلت على جوائز متنوعة كان أبرزها جائزة الكتاب المغربي عن رواية “النار والاختيار” عام 1971، وجائزة القدس في الأدب لعام 2013. وقد تم مؤخرا الإعلان عن مؤسسة خناثة بنونة للبحث العلمي للشباب كأول مشروع من نوعه في المغرب، وسط تكريم شهد حضور ومشاركة شخصيات أدبية وعلمية وسياسية مرموقة. كما وشحها سابقا صاحب الجلالة الملك محمد السادس للمرة الثالثة بالوسام المكافأة الوطنية من درجة ضابط، وهنأها برسالة فحواها :
“إننا لنعبر لك عن اعتزازنا البالغ بهذا التكريم المستحق، الذي يعد تتويجا لإبداعاتك الأدبية بمختلف أجناسها، خاصة الروائية منها والقصصية، التي أثرت الساحة الثقافية والفكرية المغربية والعربية، كما يعد أيضا اعترافا بنضالك المستمر من أجل نصرة القضية الفلسطينية، وعلى رأسها قضية القدس الشريف، التي توجد في صلب انشغالات المغرب الدائمة، ونوليها، بصفتنا رئيسا للجنة القدس الشريف ، أهمية خاصة ، اعتبارها قضية الأمة الإسلامية الأولى”.
وتقديرا لها وعرفانا بمسارها الأدبي الممتد على مدى أكثر من خمسين عاماً، أصدر اتحاد كتاب المغرب بالتعاون مع دار طبع عُمانية كتابا بعنوان “خناثة بنونة: في المرايا المنعكسة” تضمّن مجموعة من الدراسات والقراءات والشهادات وقّعها مجموعة من الكتاب والأدباء والنقاد من المغرب وخارجه من بينهم علال الفاسي وحسن المنيعي وعبذ الله اللجراري والعربي بنجلون وفاطمة المرنيسي ومنى ميخائيل وطلحة جبريل ومازن أمين وغيرهم. كما أُلِّف حولها مؤخرا كتاب يحمل اسمها “الأديبة خناثة بنونة”، من إعداد وتنسيق الدكتورة حياة خطابي، الصادر عن مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، تضمن مداخلات ورسائل وشهادات وأشعار وتكريمات ورسائل شكر في حق أيقونة الأدب القصصي والروائي النسائي في بلادنا، خناثة بنونة.