الأم آسية أو الماما… نسخة غير قابلة للتكرار
الخروج من حلق الزجاجة
و أخيرا… وجدت نفسي خارج الأسوار أعانق الحرية من جديد، أستشعر دفئ الشمس و زرقة لون السماء اللذان افتقدتهما لسنوات.
لم أكن أرغب في ما هو أكثر من ذلك حينما كنت مقبورا في زنزانتي الانفرادية، كنت أحلم فقط بالحرية و بمعانقة الحياة من جديد.
لكن مغادرتي للأسوار لم تنهي إحساسي بالسجن الذي وجدته ممتدا في أعين الناس، في أحكامهم و ردود أفعالهم. حاولت الخروج من الأزمة فلم أستطع، لأن عنق الزجاجة التي كنت بداخلها كان ضيقا جدا، و لأن الأزمة التي كنت في مواجهتها كانت أزمة ثقة من الصعب بناؤها بسهولة.
قررت الصمود أمام الوضع المتأزم بقوة و عزيمة، و استمررت في طرق الأبواب دون ملل أو كلل، كان إيماني بالله يزيد يوما بعد يوم، و أملي في الفرج لا ينقطع…
و بعد جهد جهيد من البحث أتيحت لي فرصة الاشتغال كحارس ليلي في إحدى أوراش البناء، فقبلت بها دون تردد، و استمررت بموازاة مع ذلك في البحث عن فرص عمل إضافية لاسيما و أن الراتب الذي كنت أتقاضاه كان هزيلا جدا.
و في يوم من الأيام تعرفت على أحد المحامين الكبار المتواجدين بمدينة الدار البيضاء، و بعد استضافته لي في مكتبه و دخولي معه في مناقشات قانونية عرض علي هذ الأخير فرصة الاشتغال بمعيته كمساعد لمدة تصل إلى أربع ساعات في اليوم، فقبلت بعرضه، و استمررت في الجمع بين قيامي بدور الحارس الليلي و دور مساعد المحامي لفترة ناهزت السنة و النصف تقريبا.
هذا الوضع استمر معي إلى حين سماعي بوجود جمعية تحمل إسم: “جمعية أصدقاء مراكز الإصلاح و حماية الطفولة” نشيطة بمدينة الدار البيضاء تهتم بإعادة إدماج السجناء السابقين و تتولى تقديم العون و المساعدة لهم من أجل تحسين أوضاعهم المادية و القانونية .
و كغيري من العديد من السجناء السابقين وقفت خلف طابور طويل أنتظر دوري لتقديم طلبي للاستفادة من خدمات الجمعية المذكورة و بحوزتي شواهدي الجامعية التي حصلت عليها خلف القضبان، و نسخة من سيرتي الذاتية، فكانت المفاجئة أن قبلت الجمعية توظيفي ضمن طاقمها التأطيري و إشراكي في برنامج ” خلية الإدماج و المواكبة المهنية للسجناء السابقين ” الذي أنجزته الجمعية بشراكة مع منظمة PLANETE FINANCE ، و من هنا كانت البداية.
التعرف على الأم آسية أو الماما آسية
إستقبلتني على الفور و أخبرتني بقبول طلب اشتغالي مع طاقم الجمعية، فاستعطفتها لتمنحني أجلا قصد التحلل من التزاماتي مع مشغلي السابقين فقبلت، كانت الأم آسية إنسانة متفهمة و متواضعة للغاية، كان همها الأول و الأخير هو إخراج أمثالي من السجناء السابقين من عنق الزجاجة و منحهم فرصة أخرى في الحياة و العيش بشكل يضمن لهم كرامتهم و يعيد لهم الأمل .لم يكن بيتها مقفولا في وجهي أبدا…لدرجة أنني كنت أتجول فيه بكل ثقة و كأنني واحد من أفراد أسرتها الصغيرة .
منحتني شرف المشاركة في صياغة دليل عملي للعدالة الجنائية للأحداث إلى جانب مجموعة من القضاة و المحامين.ة هذا الدليل تم تقديمه إلى جلالة الملك في إحدى زياراته للسجن المحلي بعين السبع.
المعروف الذي لا ينسى
انت الأم آسية تشجعني بين الفينة و الأخرى على اكتساب مهارات حياتية جديدة و العمل على تطوير الذات و السير بها نحو الأفضل. و من هنا تولدت لدي الرغبة في كسر جدار الصمت… حينما قررت إجتياز إحدى المباريات التي نظمتها وزارة العدل، الهدف من ورائها تعيين مفوضين قضائيين بمختلف محاكم المملكة.
قمت باجتياز المباراة الكتابية و كذا الشفوية بنجاح ، و كنت من بين الأوائل الحاصلين على نتائج جد مشرفة ، بعد ذلك تم إلحاقي بالمعهد العالي للقضاء لقضاء فترة التكوين المحددة في ستة أشهر .
غير أنه، و بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر من فترة التكوين تلقيت اتصالا هاتفيا من السيد الوكيل العام لجلالة الملك بمدينة الدار البيضاء يلتمس مني من خلاله الانتقال إلى مكتبه على الفور.
و بعد التحاقي بمكتب السيد الوكيل العام، أبدى هذا الأخير أسفه و أخبرني بعدم إمكانية مواصلتي للتكوين بالمعهد العالي للقضاء كما أخبرني أيضا بعدم إمكانية الحاقي كمفوض قضائي بإحدى محاكم المملكة بسبب سابقتي القضائية التي قضيت عقوبتها.
أحسست بصدمة قوية جراء ما حصل
و لم يعد أمامي أي خيار سوى قبول الأمر الواقع أو النضال من أجل كسر جدار الصمت و تسليط الأضواء على معيقات عملية إعادة الإدماج و ارتباط تلك المعيقات بنصوص قانونية تشكل قيودا إضافية و عقوبات لاحقة ليس من العدل الإبقاء عليها في زمن المصالحات و العدالة الانتقالية . و أخص بالذكر هنا إشكالية رد الاعتبار و ما يرتبط بها من شروط و إجراءات شكلية.
إتصلت هاتفيا بالأستاذة آسية الوديع أو الماما أسية رحمة الله عليها، أخبرتها بالموضوع، فقامت على الفور بربط مجموعة من الاتصالات مع عدد من المسؤولين من بينهم السيد الكاتب العام لوزارة العدل و السيد مدير مديرية الشؤون الجنائية و العفو، و كذا السيد المنسق الوطني لمؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، و التمست منهم الإنكباب جميعا على دراسة المشكل و محاولة إيجاد حلول بشأنه.
و في ظل عدم إبداء الجهات المذكورة في تلك الفترة لأي تدخل في الموضوع، إضطررت بدعم من الماما آسية من سلك سبل الإعلام ، و عرضت قضيتي على الرأي العام الوطني في أول برنامج على قناة ميدي 1 تيفي ” برنامج بدون حرج” ، ثم برنامج “نقط على الحروف” على القناة الثانية ، ثم برنامج” 45 دقيقة” على القناة الأولى المغربية ، و عبر أثير الإذاعة الوطنية كذلك من خلال برنامج “رفعت الجلسة” الذي كانت تقدمه الإعلامية نادية الناية.
و بعد هذا السيل الإعلامي العرم، و إثارة الرأي العام حول إشكالية رد الاعتبار و ما تشكله من عائق حقيقي لعملية إعادة الإدماج ، من خلال قضية يوسف زين الدين ، الشاب الذي حصل داخل أسوار السجن على إجازة في شعبة القانون الخاص بميزة مستحسن ، و إجازة ثانية في علم الاجتماع بميزة حسن، و أمام تعذر التحاقه بالسلك الثالث لما يقتضيه هذا الأخير من إلزامية الحضور بالحرم الجامعي ، حصل أيضا على دبلوم تقني متخصص في كهرباء البناء، أخبرت من خلال اتصال أحد المسؤولين بوزارة العدل بي بأن الوزارة ستمنحني فرصة اجتياز اختبار نهاية التكوين ، و سوف تقوم بتعليق التحاقي بمهنة المفوضين القضائيين إلى حين سلكي لمسطرة رد الإعتبار و استيفاء شروطها القانونية.
ورغم هذا الرد المطمئن الذي توصلت به لم تتردد الماما آسية أبدا عن تقديم الدعم النفسي و المعنوي لي، و لم تقفل بابها أبدا في وجهي حينما كنت أقصدها.
اليد الممدودة بالخير
و أثناء إحدى الزيارات الملكية لمركز الإصلاح و التهديب بعين السبع ، إتصلت بي الماما أسية و طلبت مني الالتحاق بها على وجه السرعة إلى هناك ، لكي تقدمني إلى جلالة الملك و لكي أتمكن من عرض قضيتي عليه مباشرة .
بعد تلك الزيارة تم إلحاقي بإحدى المنظمات الدولية التي تتخذ من واشنطن مركزا لها SEARCH FOR COMMON GROUND، حيث تم إخضاعي لمجموعة من التكاوين أصبحت من خلالها خبيرا دوليا في تدبير النزاعات و الوساطة، شاركت في العديد من الدورات التكوينية في المغرب و خارجه ، و شاركت في تنفيذ مجموعة من البرامج الدولية التي كانت مدعومة من طرف جهات دولية متعددة.
و الأن أنا أعمل بمنظمة دولية تتخذ من ستوكهولم مركزا لها إسمها مركز نورديك لتحول النزاعات THE NORDOC CENTER FOR CONFLICT TRANSFORMATION
أقل ما يمكن أن يقال في حق الماما أسية
لقد كانت إنسانة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، و أقل ما يمكن أن يقال في حقها أنها نسخة غير قابلة للتكرار ، و التاريخ يشهد على ذلك .