مراسم تقطير الزهر شاهد عصر على براعة النساء المغربيات
دأبت النساء المغربيات،سيما في مراكش وفاس ومكناس، على مراسم تقطير ماء الزهر إيذانا بحلول فصل الربيع. وهو تقليد ذو عراقة تلقنه الأم لابنتها جيلا عن جيل،في المنازل كما في الجمعيات، في المعاهد الثقافية أو داخل التعاونيات.كما درجت المدينة خلال نفس الفصل الذي تبدأ فيه زهرة النارنج (الزنبوع) في الإزهار، على الإستعداد لإحياء الزهرية، فما كان تقليدا عائليا حافظت عليه نساء مراكش، أمسى موسما ثقافيا بارزا يجذب اهتمام الأكاديميين والباحثين والصيادلة وصانعي العطور والتجار بشكل عام وجمعيات المجتمع المدني.
وفي هذا الشأن، كان لمجلتكم فرح هذا الحوار مع الأستاذة حليمة بوصادق، الخبيرة في تقطير الزهر، لتقرّبنا من هذه المراسم أكثر فأكثر.
- كيف انطلقت فكرة “تقطير الزهر” إلى أن أصبحت اليوم عادة يحتفل بها كل سنة؟
مع حلول فصل الربيع وإزهار أشجار البرتقال التي يملأ شذاها شوارع وحدائق مدينتي مراكش، يشدني الحنين لأيام تقطير الزهر التي كانت تقيمها والدتي، تغمدها الله برحمته، برياضنا بحي رياض الزيتون الجديد، وهو تقليد متجذر لدى الأسر المراكشية كما هو الحال في كبريات مدن المغرب، بدليل ذكره في كتاب «حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار» للوزير الغساني طبيب البلاط السعدي بالمغرب الأقصى إبان حكم السلطان أحمد المنصور الذهبي، والذي يقول عنه رونو إنه: “كتاب ذو منهج واضح في وصف وتصنيف النباتات، ويتميز بأصالة علمية بادية. إنه تصنيف مهم متكون من ثلاثة مستويات، يضيف إلى ما تقدمه كتب النباتات الطبية العربية القديمة عنصرا جديدا يتمثل في توثيق جل المواد الصيدلية المتوفرة في المغرب”
وفي كل موسم أخرج قطارتي من مركنها وأعود لذكريات تركت أثرا طيبا في نفسي وأحن إليها بكل شوق، وكنت أدعو بعض أفراد العائلة لحضور هذا اليوم السعيد. وفي سنة 2013 فكرت في أن أخلد هذه الذكرى بين الأحباب فكان لي شرف اقتراح زهرية مراكش في إطار أنشطة جمعية مراكش لإحياء التراث، وفاء لتلك الذكريات العزيزة على نفسي وإحياء لتراثنا اللامادي المغربي. وبعد النجاح الذي لقيته الدورة الأولى التي أقيمت بضواحي مراكش أصبح هذا النشاط نشاطا سنويا أشرف عليه بكل أريحية وأصبح هذا التقليد مفتوحا لجمهور عريض كما انضمت للجمعية فعاليات أخرى منها دار الشريفة ومتحف محمد السادس لحضارة الماء وحديقة النباتات الطبية والعطرية ومؤسسة أبناؤنا لتقطير ماء الزهر المتعدد الفوائد.
- ماذا عن الطريقة التي تمر منها هذه العملية من عملية القطف إلى الانتهاء من التقطير؟
تتوشح أشجار النارنج في فصل الربيع بالأزهار البيضاء الفواحة العطر، في صحون الرياضات والمنازل العتيقة وعلى جنبات الطريق وبالحدائق (نخص بالذكر حديقة خاصة فقط بالنارنج بباب الرب بمراكش) وداخل المساجد (مسجد الكتبية على نمط مسجد اشبيلية ومسجد قرطبة بالأندلس الذي يعرف بصحنه المسمى صحن النارنج. (يقول المؤرخون أن المصلين كانوا يسارعون للتمركز في صحن المسجد أثناء الصلاة لتنسم عبق زهره الذي كان يملأ المكان بعطره الأخاذ).
يسارع الأهالي لجنيها في الصباح الباكر، ثم فرزها عن الأوراق المتساقطة، مع الحرص على تمييز زهرة النارنج عن مثيلاتها في الجنس (الليمون الحامض، اليمون..)
يترك الزهر لمدة يوم حتى يجف ثم يتم تقطيره من طرف ربة البيت (مولات الدار) التي تلتزم بطقوس خاصة من وضوء وصلاة استخارة والصلاة على النبي قبل شروعها في العملية.
وتستعمل طريقة التقطير بالبخار باستعمال القطارة التقليدية من النحاس التي تتكون من ثلاثة أجزاء:
- الطنجرة تملأ بالماء وقليل من حبات الزهر
وتحتفظ العائلات المراكشية بسر جودة ماء زهرها بإضافة نسب من عود البخور والمسكة الحرة حسب نسبة الزهر المراد تقطيرها.
تملأ القطعة الثانية من القطارة بالزهيرات ويتم وضعها بإحكام فوق الطنجرة ثم يحكم إغلاقها بواسطة القطعة الثالثة التي تحتوي على أنبوبين:
- أنبوب لتصريف الماء الساخن
- أنبوب لاستقبال قطرات ماء الزهر.
نضع القطارة على نار هادئة بعد التأكد من أن ليس هناك منافذ للبخار باستعمال ما يدعى القفال، وهو عبارة عن ثوب يمزج بقليل من الدقيق والماء ثم يثبت على منطقة تلاقي أجزاء القطارة. ويتم اضافة الماء البارد بانتظام لضمان تحويل البخار المحمل بعطر الزهر إلى قطرات ماء الزهر.
تجمع قطرات ماء الزهر داخل وعاء خاص معروف تحث إسم “البتية”، ثم يعبأ داخل قنينات زجاجية معطرة ببخور العود ويحتفظ بها لعدة أسابيع في مكان مظلم قبل الشروع في استعمالها كما سلف الذكر.
- ما أهمية تقطير الزهر؟ وما هي استعمالاته؟
مراسم تقطير الزهر شاهد عصر على براعة النساء المغربيات في تدبير وقتهن وانسجامهن مع بيئتهن وحرصهن على خلق فرص تسعد الجميع وهن يحرصن على تخزين ما يكفيهن من ماء الوهر المتعدد الفوائد:
بقطرات من ماء الزهر يعطر الحليب الذي يقدم مع التمر كعربون للاستقبال الرائق، وبه تفتتح احتفالات الحياة الزوجية حيث أول ما يتقاسمه الأزواج هي أكواب الحليب المعطرة بالزهر.ونضفي به نكهة خاصة على الحلويات التي لا تروق الجلسات إلا بتذوقها، كما تهدى أول القطرات للعروس رمزيا لجلب السعد أو لإدخال البهجة من جديد على نفوس حزنت بعد فقدان عزيز.
وفي مجال العناية بالصحة، يستعمل لتهدئة الأعصاب ولتنشيط الدورة الدموية وللعناية بالبشرة حيث ينعشها بعد حمام مريح كما بعد تعب وإرهاق. وبثمرة النارنج تصنع أجود أنواع المربى، كما يستعمل لحفظ الزيتون لمدة طويلة وبه يصنع شراب منعش مفيد…
وتستخرج من أزهاره زيت النرولي التي تستعمل في تركيب أرقى وأفخر أنواع العطور العالمية.