التدليل الزائد للطفل هو إعداده للفشل…
محمد الطيب بوشيبة
علموا أطفالكم الاعتماد على أنفسهم… التربية صرامة…
كانت زيارة تفقدية لأوضاع سجن السجناء والسجينات الأحداث بأحد مراكز حماية الطفولة… مهمة اعتدنا عليها نحن أعضاء جمعية “ماما آسية”.
مهمة صعبة لكنها إنسانية بامتياز.
صعبة من حيث كم الشجون والأسى والحسرة على طفولة اغتصَب قهرُ الزمان براءتها. وإنسانية من حيث رسائل الأمل التي يمكن أن تضخها في نفوس هؤلاء الأحداث عند كل زيارة.
كانت الوجهة جناح القاصرات، وهن قلة.
لمحتُ إحداهن تُردد بحسرة: ماذا فعلتِ بي يا أمي آحْبيبْتي؟؟
سؤال حيرني وأودع في نفسي علامات استفهام بارزة جعلتني أنبش بين حروف آهاتها علني أفهم سرها وأستطيع فعل شيء لها.
كانت مليكة فتاة في الخامسة عشر من عمرها، لكن قسوة الحياة ومرارة السجن حفرت على جدار قلبها رثاء متكررا لنفسها وعتاباً متواصلا لأمها، انكسار مبكر كان كفيلا بأن تبدو “الطفلة” أكبر من سنها بكثير.
كانت “الطفلة السجينة” وحيدة أمها، يتيمة الأب، متطلعة جدا، حادة الطباع ولا تقبل النصح أبدا. وبقدر ما كانت أمها تخاف عليها، بقدر ما كانت تدللها، ظنا منها أن في الخوف عليها حماية وفي تدليلها تعويض عن الأب الغائب، ولم تكن لتعلم بأنها بذلك تربي بداخل صغيرتها كائنا متمردا لدرجة العقوق المشين والعصيان المقيت.
أجل. كانت هذه الفتاة عاقة لأمها ليس في تصرفاتها فحسب، بل حتى في أقوالها وردود فعلها.
تعرفت مليكة على تلميذة سيئة السمعة في الإعدادية التي كانت تدرس بها، حيث كانت معروفة بعلاقاتها المشبوهة وممارساتها اللا أخلاقية، كثيرة الشغب والوقاحة، وكانت مليكة معجبة بجسارتها وشغبها وخفتها وترى في كل ذلك قوة في شخصيتها، فكانت تخافها وتتحاشى غضبها. فمليكة كانت تتوق إلى خوض تجاربها إرضاء لتطلعاتها وتمردها على وضعها.
وفعلا كانت هذه “التلميذة” صلة وصل تعرفت من خلالها مليكة على شاب مؤهلاته الأناقة والوسامة وأصول “الكيوت” – كما يشاع اليوم في صفوف الفتيان والفتيات – كان يبدو لها رومانسيا وليس كمثله أحد. استطاع بهندامه وكذبه وخفة دمه وسيارة أبيه التي يختلسها كل مرة أن يصطاد مليكة وهو يوهمها بالثراء الفاحش وبأنه فتى أحلامها و… و… و…
تعلقت مليكة بالوهم تعلق الغريق بطوق النجاة، حتى صارت أنفاسها رهينة برنات جوالها تنتظر سماع صوت معشوقها ووعوده، وحديثه، وضحكاته لساعات طوال، وكلما سألتها أمها عن مصدر مكالماتها، تجيبها بكل ثقة ووقاحة:
– “ لا داعي لكل هذه الأسئلة، أنا أدرس مع صديقتي، فالامتحانات على الأبواب !”
وبتكرار وتوالي هذه المشاهد، كانت الأم تعي بحدسها وملاحظاتها اليومية تحولا جذرياً في سلوك ابنتها المراهقة، وكانت من فرط خوفها عليها تارة تعاتبها وتارة أخرى تسارع للصفح عنها، وكل ذلك لم يمح شكوكها وتوجسها من مصير مجهول ربما تخفيه عنها، وبدأت تترصد خطواتها….
توجهت الأم إلى المؤسسة حيث تتابع مليكة دراستها لتسأل عن أحوالها الدراسية، لتصدم بنبأ تغيبها عن صفوف الدراسة وإخفاءها عنها كل مراسلات المؤسسة لها بشأن غيابها المتكرر والمتواصل، بل وأكثر من ذلك أخفت عنها قرار فصلها النهائي بعد غياب مسترسل دام لأزيد من شهر. نزل الخبر كالصاعقة فوق رأسها، فهي وبدأت تستحضر شريط أفعال ابنتها وكم التحول الذي بلغته ومعه كم التنازلات عن سلطة الأم و كم التجاوزات التي قدمتها هي لها بالمقابل بدعوى انها مراهقة تكتشف ذاتها كأنثى: “لا بأس من قليل من الماكياج… لا بأس من ارتداء ألبسة قصيرة وكاشفة لتضاريس جسمها الأنثوي في طور التشكل،،، الغض… لا بأس من الأظافر الطويلة وأطراف الشعر الملون… ولا بأس ولابأس ولا بأس…
تجاوزات قد لا تبرر درجة محبة الأم لابنتها وحرصها الشديد عليها… تجاوزات كشفت لا محالة عن خلل كبير في مفهوم التربية والتواصل لديها، خلل كان كفيلا بأن يحول الصغيرة إلى كائن عبثي ومتمرد…. تقول الأم وقد تراكمت بذهنها عدة تساؤلات وتوجسات: “كنت أحضر لها كل ما تطلبه، وككل أم لم أقصر يوما في تلبية متطلباتها، لم أحاسبها، لم أقس عليها… كنت متفهمة لها إلى أبعد الحدود… فأين مكمن الخلل؟ كانت تخرج أمامي والوزرة بيدها بدعوى ذهابها للمدرسة، فأي وجهة كانت تقصدها ومع من كانت تقضي يومها؟ و مع من كانت تتحدث دائما ومطولا على الهاتف؟
أدركت الأم جيدا وبكل مرارة عمق أخطائها وخطورة تجاوزاتها، وإفراطها في وضع ثقتها في ابنتها دون تتبع او مراقبة ولو حتى عن بعد… وبعد تحرياتها اليائسة عن أحوال مليكة بين زميلاتها، علمت بكل ما حدث وبانحرافاتها السلوكية رفقة صديقتها، وبأنها على علاقة بشاب يكبرها سنا ًويوهمها بمستقبل وردي وهو لا يملك حتى قوت يومه. بل أكثر من ذلك جعلها تتناول المخدرات، وتدمن عليها…
هذا “الانفلات التربوي والأخلاقي” الذي وقع لمليكة في غفلة من أمها جعل هذه الأخيرة، وفي محاولة ربما يائسة وجد متأخرة، تحاول ضبط وتقويم سلوك ابنتها، وشكل ذلك دافعا ملزما لها بأن تغير معاملتها معها.
واجهتها إلى حد التحذير والتهديد بإخبار أعمامها وأخوالها إن لم تقلع عن هذه العلاقة، لكن تمرد مليكة وحدة طبعها ويقينها التام بضعف أمها وعجزها عن إخبار أحد لتعلقها الشديد بها. كل ذلك كان كافيا ليجعلها تتمرد أكثر ولا تكترث لتهديدها، خاصة وأنها كانت قد تورطت مع عشيقها تورطا كاملا وشاركته في كل رغباته ونزواته… نعم، لم تكترث لتحذيرات أمها وتهديداتها ونصائحها، فقد كانت تردد عليها دائماً:”آبنتي انتينا باقا صغيرة، والحياة فيها مفاجآت، وخبرتك بها لا زالت محدودة … مكانك الطبيعي يوجد في المدرسة… وبرسالة استعطافية لمدير المؤسسة، قد يمكن تدارك الخطأ وطي هذه الصفحة”. لكن المراهقة الصغيرة ” الكبيرة” رفضت وطالبت امها بعدم التدخل في شؤونها “الخاصة”.
وفي يوم من الأيام اتصل الشاب بمليكة، وبالصدفة كانت بعيدة عن هاتفها المحمول، فردّت أمها. لكن لم يجبها أحد. أيقنت أنه هو عشيق ابنتها ومستغلها، فخاطبته خطاب الأم الخائفة على ابنتها وطلبت منه الابتعاد عن صغيرتها. كان حديث الأم في الهاتف بمثابة القطرة التي أفاضت كأس مليكة. وتحت ضغط الحب الزائف والتعلق المزعوم، ذهبت لأمها رافعة صوتها عليها بكل وقاحة وغلظة وبكلام جارح وأسلوب قاس على مرأى ومسمع من الجيران والحومة.
لم تستوعب الأم جيدا ما كان يحدث، لكنها كانت ترى أمامها مخلوقا عدوانيا كان بالأمس يترعرع بين أحشائها فصار اليوم ماردا يوبخها وينهرها وعلى وشك أن يضربها. وبكل فزع صاحت الأم:
” مالك آبنيتي، شنو وقع لك؟؟ اتقي الله… شوف فيا أنا يماك… أنا يماك… ومن خوفي عليك كنتصرف هاكا… خصني نحميك.”
لم يكن لكلام الأم المجروحة صدى في القلب الأعمى لمليكة، فردت عليها:
” بساع مني آللا، مكنعرفكشي… اخطيني عليك… طلعتيلي فراسي… آللا ميّك عليّ شوية… هادي حياتي وأنا حرة فيها.”
تعالت صيحات مليكة الاستنكارية ضد والدتها في الحومة دون اكتراث للجيران والمارة، وبدت الأم تستعطف ابنتها لتسمعها وتبدي لها استعدادها تاما للصفح عنها كما العادة، لكن الشيطان أعمي لمليكة البصر والبصيرة، فلم تعد تعير اهتماما لا لأمها ولا لندائها لها بل ولا حتى للألم الذي سببته لها. وغادرت تاركة وراءها ذهول واستنكار وخذلان الجميع وأما بقلبها لهيب وبعينها دموع جافة وبصوتها نبرات متقطعة: “سير ابنتي الله يفجعك كيفما فجعتني ويفضحك كيفما فضحتني بين الجيران والناس. “
لم تكن مليكة وقتها تدرك أن دعاء امها عليها لا محالة هو سلاح فتاك سريع الأثر كيف لا وهو دعاء من فؤاد ام غاضبة ومظلومة دعاء سيخترق الحجب والسحب والسماء إلى يصل الى السميع البصير…
استمرت مليكة في علاقتها مع ذلك الشاب ووقعت المصيبة الكبرى: بعد أشهر من التسكع بين مساكن رفاقه، حملت منه سفاحاً وأخفته، واتفقا سوياً على إيجاد حل لهذه الكارثة. ظل صراخ الأم ودعاؤها ملازمين لمليكة أينما حلت تتذكره، وظل عقوقها وصمة عار تلاحقها…
اتفقا سويا على إخفاء معالم الخطيئة، وإجهاض الجنين وقتله في جُنح الظلام، لكن الأقدار كانت لهما بالمرصاد، وكشف أمر جريمتهما على يد رجال الأمن وألقي القبض عليهما …وكان وقت السداد: دخل الشاب السجن وأودعت القاصر مليكة بسجن الأحداث لتلقى مصيرا لم يكن لها في الحسبان…بكت كثيران وظلت تتذكر أمها وتضحياتها وهي تردد: “الحادثة مهولة والنهاية فاجعة بالنسبة لي ولأهلي وأقول بمرارة وألم: بأي وجه أقابل أمي الحنون؟ وبأي حال أقابل أهلي ومعارفي؟ مطأطئة الرأس مسودة الوجه. وتقول هذه الفتاة في نهاية حكايتها: “أودعت السجن جزاء سلوكي المشين ومعاقرتي الخمر والمخدرات في سن مبكر… وسلكت معه كل مسالك الشيطان… لقد تورطت بذلك في علاقات سلبت مني كرامتي وعفتي وأهدرت بأقل ثمن بل وبدون مقابل إلا من شهوة أحسستها لدقائق ونشوة عابرة ما أسرع ما انتهت… وبقيت أتجرع آلامها شهوراً طويلة عشت أيامها في السجن أعد الأيام عداً وأتجرع لوحدي الأسى والأسف وأتنفس الهم والشجن عشت في سجن ضاق بي وضاقت معه أنفاسي فلم يعد بمقدوري أن أتحمل بُعدي عن أمي التي تزورني من وقت لآخر وهي تدعو لي لكن بعد فوات الأوان… أقولها وبكل حسرة ومرارة: مهما أخطأت فأنا تائبة!! وإن زلت بي القدم فأنا عائدة!! لا غنى لي عن أمي فهي من تزيل همي وتخفف لوعتي فدعوة لكل أم أن ترحم أمثالي من بعض الفتيات المجروحات بنار المعصية المكلومات بحرارة الخطيئة”.
غادرت المركز وأنا موقن بأن التدليل الزائد لأبنائنا يؤدي إلى تكوين شخصية ديكتاتورية، حيث يستمتع الطفل بالسيطرة على كل ما حوله، ما يجعل من الصعب إرضاءه في المستقبل، ويعاني كل من حوله من طباعه الصعبة وسيطرته وتحكماته المفرطة إلى أن يسقط في بدوره في قبضة الشخص النرجسي ليستعبده… مثلما يفسد الحرمان الطفل، فإن الإفراط في تدليل الطفل يفسده أيضًا، لذا يجب ان ننتبه لتصرفاتنا مع طفلنا وأن نحرص على انتهاج طريقة تربوية تتميز بالحزم واللين في الوقت نفسه. التدليل مطلوب في بعض الأوقات، ولكن بطريقة غير مبالغ فيها وليس بشكل مستمر وفي جميع الأوقات، لأن ذلك سيؤدي إلى تدمير شخصية أبنائنا وبناتنا، ولن يستطيع بعد ذلك مواجهة الصعاب والتحديات التي ستواجهه في الحياة .