آسية… وشم الطفولة

- Advertisement -

أسماء الوديع

         يصعب الحديث عن شقيقتي آسية الآن، وهي الغائبة الحاضرة باستمرار…

من أين وكيف أبدأ حديثي عن الطفلة، ثم الشابة، ثم المرأة العصية، عن البوح.
اسية الوديع

تستفزك نظراتها الحزينة وتطوح بك بعيداً عبر التاريخ المشترك، ويصعب الحديث أكثر إذا شئت أن تتابع الآن خطواتها منذ ذاك الصبا البعيد…

فمن أين وكيف أبدأ حديثي عن الطفلة، ثم الشابة، ثم المرأة العصية، عن البوح…

آسية لم تكن طفلة تكتفي باللهو كبقية الأطفال. فقد كانت مظاهر الظلم بجميع تلاوينه تستفز قلبها الصغير، فتثور من حيث لا تدري و تذرف الدموع بلا حساب…

أذكر من بين ما أذكر، على سبيل المثال لا الحصر، أنها عشية أحد الأعياد خرجت إلى الزقاق حيث كان بيتنا بمدينة سلا،  وكان الجو ممطراً، فلمحت طفلة في نفس سنها تمشي حافية، فما كان منها سوى أن اقتربت من الطفلة وطلبت منها أن تنتظرها لحظة، ثم صعدت إلى البيت مسرعة وتوجهت إلى إحدى الغرف التي كان بها مقتنيات العيد. ثم سحبت في هدوء حذاءها الأبيض الجميل الذي كانت أمي قد اقتنته لها بمناسبة العيد. أخذت الحذاء ونزلت الدرج دون أن تحدث صوتاً، ثم طلبت من الطفلة -التي كانت تنتظرها وهي ترتعش من البرد- أن تنتعل الحذاء الذي جاء على مقاسها تماما كما ناولتها بقية ثياب العيد ثم ودعتها  وعادت أدراجها الى البيت…

في الصباح وبينما كنا نستعد للحظة الجميلة،  لحظة ارتداء ثياب العيد. كانت أمي تبحث عن مقتنيات آسية ولما لم تجدها رفعت عينيها إلى الطفلة التي كانت تقف واجمة لا تدري كيف تخرج من المأزق، وحينما توجهت إليها والدتي بالسؤال عن الثياب وعن الحذاء الأبيض الجميل، ردت آسية بعفوية الأطفال بعد أن استجمعت شجاعتها: “لقد أعطيتها لطفلة كانت تمشي حافية في الزقاق “.

امتلأت عينا أمي بالدموع واحتضنتها طويلا دون أن تعقب .

  وفي إحدى المرات وبينما كنا ثلاثتنا، آسية وأمي وأنا، بالحمام العمومي وكانت تجلس بجانبنا سيدة تضع على حجرها طفلة تغسل شعرها بينما تأمر وتنهر طفلة أخرى في نفس سن الأولى، وتطلب منها أن تجلب الماء وبقية المستلزمات. وكانت آسية تراقب المشهد. وفي لحظة، ربما تأخرت الطفلة وهي تأتمر بأوامر السيدة، انقضّت هذه الأخيرة عليها لتشرع في ضربها بسادية غريبة.  لم تنتظر آسية طويلا حيث نهضت من مكانها مسرعة وأخذت الطفلة في حضنها، وكانت في نفس سنها تقريباً، وصاحت بأعلى صوتها: “ماعندكش الحق ضربيها،  هذا ظلم “!

فارتج كل من كان بالحمام، ولا أذكر كيف انتهت القصة.  

  بعد ذلك سوف تأتي مرحلة المراهقة، ثم الشباب، حيث ستنخرط آسية بوعي هذه المرة في التصدي لكل مظاهر التمييز والظلم، وتختار العمل في صفوف الطلبة من أجل مغرب آخر،  تمّحي فيه تلك الفوارق التي ظلت تؤرقها طوال حياتها، إلى أن رحلت…

وبعد المرحلة الجامعية، سوف يتم تعيينها بالمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء نائبة لوكيل الملك، حيث ستعرض عليها قضايا الأحداث والنفقة،  ومن هنا ستبدأ معاناة جديدة مع وضع جديد: انحراف الأحداث إناثاً وذكوراً، ناهيك عن وضعية النساء اللائي تنكر لهن الأزواج فولجن المحاكم من أجل الحصول على نفقة تقيهن شر السؤال…

وكانت تبذل قصارى جهدها لتفادي متابعة الأحداث الجانحين قضائياً والاكتفاء بإعادتهم لحضن الأسرة إن كانت هناك أسرة!!!  وفي أسوأ الأحوال كانت تعمل على إحالتهم على دور الرعاية التي لم تكن بدورها مع الأسف تُوفّر الاحتضان المأمول،  فكانت تتابع أوضاعهم باستمرار من أجل إعادة إدماجهم في المجتمع وبين صفوف الدراسة، بشكل ينتشلهم من الضياع أو الرجوع إلى الجريمة.

وحينما قررت أن تغادر الوظيفة، نظراً للمضايقات التي لاحقتها لمشاركتها في أنشطة حركة عائلات المعتقلين السياسين، أصبح مكتبها للمحاماة قبلة لكل من لا تسعفه الظروف لأداء أتعاب المحامين، لدرجة أنها لم تعد قادرة على تحمل أعباء المكتب، لتعود مرة ثانية إلى الوظيفة التي قد تحفظ كرامتها.  و كان أن اختارت الالتحاق بوزارة العدل، ثم طلبت إحالتها على إدارة السجون، ومن تم التكفل مباشرة بمراكز الاصلاح والتهذيب لتصبح أما لكل السجناء،  وبلسما لجراحهم، حتى لقبت بـ”ماما  آسية”…

         هذا فيض من غيض لم أستطع أن أفي بكل ما تختزنه الذاكرة،  ربما يكون في مناسبة أخرى…