تحفةُ القُرّاء في رحلة ابن بطوطة الغرّاء (5)

- Advertisement -

عـلاء الـبـكـري

خرج ابن بطوطة من مسقط رأسه طنجة، وهي المدينة الصغيرة ذات المجتمع الضيق، ومن ثقافة شيوخه الدينية والتراثية، إلى عالم أرحب، وبلدان مختلفة، وثقافات متعددة بتعدد مجتمعاتها.

يواصل ابن بطوطة الحديث عن الأمور الغريبة والعجيبة والخارقة للعادة في تحفته، فيحكي عند مروره بموضعٍ ببلاد العراق يقال له أفقانبور حكاية الرقص على النار. حيث يروي عند نزوله بهذا الموضع على نهر يعرف بنهر السرور، أن جماعة من الفقراء حلوا عليه حيث هو، وفي أعناقهم أطواق الحديد وفي أيديهم، وهم من الطائفة الشيعية المعروفة بالحيدرية وهي أكبر عشائر الطائفة العلوية، وكبيرهم رجل أسود حالك اللون. فطلب منه هذا الأخير أن يأتيه بالحطب ليوقدوه من أجل رقصهم عليه وهو متقد. فكلف ابن بطوطة والي تلك الجهة  – عزيز الخمار – أن يأتي بالحطب، فجاءهم بما يقرب العشرة أحمال، فأضرموا فيه النار بعد صلاة العشاء حتى صارت جمرا لاهبا، وأخذوا يرقصون ويتمرغون فيها إلى أن طلب منه كبيرهم إعطاءه قميصا. فناوله ابن بطوطة قميصا فلبسه وجعل يتمرغ في النار اللاهبة ويضربها بأكمامه حتى انطفأت وخمدت.وجاء إليه كبيرهم بالقميص والنار لم تؤثر فيه شيئا البتّة. يقول ابن بطوطة “فطال عجبي منهم”.

وغير بعيد عن هذه الحكاية، يروي ابن بطوطة حكاية أخرى مشابهة في مدينة واسط العراقية، عند حلوله ضيفا على الشيخ تقي الدين عبد المحسن الواسطي، أنه ذهب لزيارة قبر الولي أبي العباس أحمد الرفاعي، فصادف هناك قدوم الشيخ أحمد كوجيك حفيد ولي الله أبي العباس احمد الرفاعي آتيا لزيارة قبر جده. ولما انقضت صلاة العصر ضُربت الطبول والدفوف، وأخذ الفقراء في الرقص، ثم صلّوا المغرب وقدّموا السماط، وهو خبز الأرز والسمك واللبن والتمر، فأكل الناس وأشبعوا بطونهم، وصلوا العشاء، وأخذوا في الذكر، والشيخ أحمد جالس على سجادة جده المذكور، ثم أخذوا في السماع، وقد أعدوا أحمالا كبيرة من الحطب فأجَّجوها نارا، ودخلوا في وسطها يرقصون ومنهم من يتمرغ فيها كأنها الرمل، وفيها من يأكلها بفمه حتى تنطفئ. وهذا ديدنهم وعادتهم. وهذه الطائفة تنتسب إلى الطائفة الأحمدية أو ما يعرف اليوم بالجماعة الإسلامية الأحمدية، وهم مخصوصون بهذا، وفيهم من يأخذ الحية العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه دون تردد ولا خوف.

ومن الأحداث الغريبة التي يقف لها العقل ذهولا، ما يرويه رحالتنا إبان حضوره مجلس سلطان جاوة التي تعرف اليوم باندونيسيا، فيحكي أنه رأى بمجلس السلطان رجلا يحمل بيده سكينا حادا، قد وضعه على رقبة نفسه، ونبس بكلام كثير لم يفهمه، ثم أمسك السكين بيديه معا، وقطع عنق نفسه، فوقع رأسه لحدة السكين، وشدة إمساكه بالأرض. فعجب ابن بطوطة من شأنه. فسأله السلطان: أيفعل أحد مثل هذا عندكم؟ فأجابه عليه ابن بطوطة بالنفي. فضحك السلطان وقال : هؤلاء عبيدنا يقتلون أنفسهم في محبتنا. وأمر به فرُفع وحُرِق. وخرج لإِحراقه النواب وأرباب الدولة والعساكر والرعايا. فاستفسر ابن بطوطة أحد الحاضرين عن حقيقة الأمر، فأخبره أن الكلام الذي تكلم به العبد كان تقريرا لمحبته في السلطان. وأنه يقتل نفسه في حبه كما قتل أبوه نفسه في حب أبيه، وجده قتل نفسه في حب جده. فانصرف ابن بطوطة من المجلس مسرعا لهول ما رآه وسمعه.