دافوس… قصة المكان ومسار الفكرة

- Advertisement -

دافوس

كان يمكن لهذه القرية المعلقة بين جبال الألب في الشرق السويسري أن تظل قانعة بهدوئها وانفلاتها من رادارات الصخب الحديث لولا تضافر اختيارات معزولة وضعتها على الخريطة، على مراحل، لتصبح اليوم محجا سنويا لصناع القرار عبر العالم وعلامة مصدقة لحدث نخبوي بامتياز.
أكثر قليلا من 10 آلاف نسمة يقيمون في هذه الأعالي التي تنيف على 1500 متر، يستلذون يوميات ساكنة لا تضج إلا بمقدم زوار موسم الثلوج ثم أيام خمسة من محفل عالمي يسلط على البلدة أضواء الكاميرات التي تقتفي خطوات كبار قادة العالم ومدراء الشركات العظمى. وعاما بعد عام، انضمت إلى هامش المحفل حركية موازية مضادة من هيئات غير حكومية وناشطين ناقمين على الرأسمالية العالمية وحاملين هم النظام البيئي والعدالة الاجتماعية.

لا تظهر دافوس إلا عرضا في كتب التاريخ الوسيط التي تحدثت عن هجرات قديمة رومانية وجرمانية إلى المنطقة قبل أن يتنبه خبراء الصحة ابتداء من منتصف القرن 18 إلى جودة مناخها وفضائها الإيكولوجي في تعزيز مزايا علاج الأمراض التنفسية فاحتضنت مراكز طبية متخصصة. ثم انجذب عشاق التزلج إلى وعورة ومتاهة مسالكها الجليدية فأضحت منذ نهايات القرن 19 محطة للسياحة الشتوية تستقطب الهواة والمحترفين والأثرياء الباحثين عن مناظر بيضاء ناصعة محدودة الولوج.
خلدها الكاتب البريطاني آرثر كونان دويل، مبدع “شرلوك هولمز” بمقال عن رياضة التزلج، لكن المكان حضر بقوة كفضاء سردي لدى الكاتب الألماني توماس مان في “الجبل السحري” التي كتبها بين 1912 و1923 بعد إقامة في البلدة. وقد جعل مركزها الاستشفائي الطبيعي المعروف بؤرة أحداث الرواية التي تعد من كلاسيكيات الأدب الألماني.

من المرجح أن دافوس اليوم استلهمت تلك التجربة الجنينية المشعة التي انتخبت البلدة الصغيرة منزلا لخلوة فكرية تنتج الأفكار الخلاقة. فمن مارس إلى أبريل 1928، انعقدت سلسلة محاضرات جامعية خاصة ومبتكرة من حيث برنامجها، إذ جمعت بين الدرس الجامعي الرفيع واكتشاف الرياضات الجبلية وفعاليات للتبادل بين العلماء والطلبة الوافدين من ألمانيا وفرنسا وسويسرا. كان يتاح للطلبة المشاركة مجانا في الفعاليات الرياضية والعلمية مع تكاليف مخفضة تشجيعية للإيواء والتنقل.
تواصلت المحاضرات من 1928 إلى 1931، قبل أن توقفها الأزمة الاقتصادية الكبرى لعام 1929 ثم صعود هتلر إلى السلطة عام 1933. يستحضر المهتمون بتاريخ الجدالات الفلسفية تلك اللحظة القوية لحلول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في نقاش حاد مع مواطنه إرنست كاسيرير حول الإنسان واللغة والعقل وغيرها من الانشغالات الكانطية.

لكن عالمية الاسم وصيته الذائع لم يتحققا إلا مع قرار ذلك الأستاذ الجامعي والناشط الاقتصادي الألماني الأصل كلاوس شواب اختيار دافوس مكانا للمنتدى الاقتصادي العالمي، يحتضن فعالياته بشكل دائم منذ 1971، ويمنحه اسمه الذي سافر عبر العالم بصيغته المبتكرة وبقدرته المتواترة على جمع نخب السياسة والفكر والاقتصاد في فضاء أكثر تحررا من قوالب الدبلوماسية التقليدية، من أجل التفكير الجماعي في قضايا وتحديات عابرة للحدود.

كانت بلورة الفكرة في بدايتها تنبع من رغبة رائدة لشق طرق جديدة للتفكير في شؤون العالم من خارج الصندوق، بعيدا عن مدارات الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، وأنانيات التسابق الذي لا ينظر إلى مصلحة الكيان إلا نقيضا لمصلحة الآخر. وبعد الحرب الباردة، اكتسى المنتدى أهمية وإشعاعا مضاعفا حفزه الشعور بالقدرة على الانخراط في إجابات مشتركة للمشاكل التي تواجهها الإنسانية.

جمع شواب بين التدريس الجامعي في جنيف والتنظير في السياسات الاقتصادية معززا بمسار بحثي عميق توجه بنيل شهادتي دكتوراه في الهندسة والعلوم الاقتصادية. يمكن اعتبار كتابه الأطروحة “إعادة الضبط الشامل” the great reset بمثابة اعتراف بأن النتائج المحصلة من سنوات طويلة من التداول حول شؤون العالم ظلت محدودة الأثر.

خرج الكتاب عام 2020، في ذروة جائحة “كوفيد-19″، ولذلك يبدو بمثابة مرافعة استعجالية للتحرك الجماعي في اتجاه إنقاذ مستقبل الإنسانية. الأزمة يمكن أن تكون فرصة شرط أن يضع القادة نصب أعينهم تحقيق بعدي الاستدامة والعدالة في مسلسلات النمو الاقتصادي والثورة التكنولوجية. غير أن مرحلة ما بعد الجائحة تفاقمت بتحد جديد يخيم على فعاليات المنتدى الذي ينطلق يوم 16 يناير: الحرب في أوكرانيا.

بين هاجس الاستدامة البيئية والتحدي المناخي من جهة، وأشباح الركود الاقتصادي المصحوب بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية، من جهة أخرى، تنبثق المعضلة الكبرى التي ينكب عليها قادة النخب السياسية والاقتصادية عبر العالم في استكشاف معالم طريق نحو عالم منخفض المخاطر.
بلدة دافوس لا تملك مفاتيح الحل لكنها تصبو إلى إلهام مقاربات جديدة ومبتكرة لجعل الحياة على الكوكب أفضل.