في قلب واشنطن، حيث تنبض العاصمة بالحياة والحركة، يقف متحف “سميثسونيان” الوطني للفنون والثقافة الأفرو-أمريكية كتحفة معمارية تخطف الأنظار، مشكّلا جسرا زمنيا يعبر به الزائر من الحاضر إلى أعماق التاريخ الأفرو-أمريكي. منذ افتتاحه في شتنبر 2016، يُعد هذا الصرح شاهدا على ثراء وتعقيد تجربة الأمريكيين الأفارقة، حيث يُكرّس بأكمله لاستكشاف وتوثيق أبعاد حياتهم ونضالاتهم وإبداعاتهم.
كأعجوبة ترتفع فوق الأرض بأربعة طوابق، يطل هذا الإبداع المعماري على “الناشونال مول”، معلنا عن نفسه كملتقى للأرواح الباحثة عن المعرفة. فيه، تتجلى معارض تفاعلية تحتفي بكل شيء من الفن إلى العبودية، ومن الحقوق المدنية إلى الرياضة والثقافة، موفرة رحلة عبر الزمن تحكي قصصا من الألم والفخر والانتصار.
مع تمام الساعة العاشرة صباحا، تشرق شمس واشنطن بأشعتها الدافئة، متغلبة على خجل الغيوم الخفيفة التي لوّحت بالأمس. وعلى أعتاب هذا المعلم التاريخي، تتجمع جموع من الزوار، أمريكيين وسياح من شتى أرجاء العالم، كل يحمل في قلبه شغفا وتوقا لاجتياز أبواب هذا العالم الرائع. يتصاعد الحماس في الأجواء، والجميع يقفون في انتظار، يترقبون بلهفة اللحظة التي يخطون فيها إلى داخل الصرح، ليبدأوا رحلتهم عبر الزمان، في عالم يروي سيرة شعب وتاريخ لا يُنسى.
في لقاء عابر بالمكان، إيما أمبر روز، امرأة أمريكية سوداء قادمة من فيرجينيا برفقة طفليها، تؤكد على أهمية النضال الذي خاضه أجدادها في الدفاع عن حقوق وحرية المجتمع الأفرو-أمريكي، معربة عن فخرها بكفاح مناضلين من طينة مالكولم إكس ومارتن لوثر كينج.
يتوافد العشرات من الزوار على المبنى الذي ينقسم إلى طوابق ذات طابع خاص. أولها معرض “مفترق طرق الفنون”، وهو معرض يسرد بالتفصيل تاريخ الموسيقى الأفرو-أمريكية، منذ وصول الأفارقة الأوائل إلى يومنا هذا. من موسيقى الجاز إلى الهيب هوب، حيث استطاع الموسيقيون الأفرو-أمريكيون إيجاد أشكال فنية جديدة أسهمت في تعزيز جهود النضال من أجل الحرية والمساواة.
من مايكل جاكسون إلى أوبرا وينفري، مرورا بأريثا فرانكلين والعظيم برينس، شخصيات رمزية تعود إلى الحياة من خلال هذا المعرض الذي يُسلط الضوء على مسيراتهم، حياتهم، وإبداعاتهم.
في أروقة هذا المعلم الثقافي، حيث يتجسد صدى الأصوات العظيمة، يمكن للزائر أن يستكشف كنوزا تاريخية أبقت ذكرى جون كولترين، مايلز ديفيس، لويس أرمسترونغ، وجيمي هندريكس حية بيننا. فيديو يعيد بعث لحظات جيمي هندريكس الأسطورية وهو يعزف النشيد الوطني الأمريكي، لحظة تأملية تدعو إلى إعادة التفكير في معاني الحرية والهوية.
تلك الجدران تعرض ألبوما حيّا من الصور، ومقاطع فيديو، وألحانا خالدة، إلى جانب متعلقات شخصية لهذه الأيقونات تنقلنا إلى عوالمهم؛ بذلاتهم، أحذيتهم، قبعاتهم، وفساتينهم تُروى قصصُ حيوات تركت بصماتها على مسرح الثقافة الأفرو-أمريكية.
وفي ركنٍ يُعانق الأصالة، تبرز صور وأغراض منتقاة بعناية فائقة تحكي عن مشاهير تجاوزت شهرتهم الزمان والمكان، من كاديلاك تشاك بيري الحمراء البراقة، إلى جاكيت جيمي هندريكس الهيبي، وحتى بورسالينو مايكل جاكسون، كل قطعة تنقل الزائر في رحلة عبر الزمن ليشهد الأثر الذي تركه هؤلاء العظماء.
تحت لافتة “العبودية والحرية”، تُنسج قصص من النضال والأمل، مجموعة من الشهادات والأغراض تسرد تاريخ فصل مؤلم من الماضي الأمريكي، بينما تسلط “الدفاع عن الحرية” و”أمريكا المتغيرة” الضوء على مسيرة الحقوق المدنية، تذكر الزائر باغتيال مارتن لوثر كينج الابن، وتعانق إرث فترات رئاسة باراك أوباما.
من زمن العبودية إلى أيام إعادة البناء، ومن عصر الفصل العنصري إلى أمريكا الراهنة، ينسج المتحف ببراعة رواية تأكيد الذات للمجتمع الأسود، من حركة “النيجرو الجديد” في أوائل القرن العشرين، إلى قوة السواد التي جسدها تومي سميث وجون كارلوس بقبضاتهما المغطاة بالقفازات السوداء مرفوعة على منصة تتويج الألعاب الأولمبية في مكسيكو، مرورا بحركة الحياة السوداء المناهضة للعنصرية.
في مجال الرياضة، يكرم المتحف أيضا الرياضيين الأفرو-أمريكيين، بما في ذلك الأخوات وليامز، والرياضيين جيسي أوينز وكارل لويس، ولاعب البيسبول جاكي روبنسون، فضلا عن لاعب كرة السلة مايكل جوردان.
من بين 34 ألف قطعة تمكن المتحف من اكتشافها في بيوت الناس، نجد بشكل خاص الشال الذي أهدته الملكة فيكتوريا لهارييت توبمان، وملابس روزا باركس أو ماريان أندرسون، وحتى الحذاء “البرليني” لجيسي أوينز.
في فبراير الماضي، احتفل المتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأفرو-أمريكية بشهر تاريخ السود تحت شعار “الأفرو-أمريكيون والفنون”. بهذه المناسبة، تم التركيز على الفن كمنصة للعدالة الاجتماعية.
ووفقا لمديره، كيفن يونغ، فإن الأمر يتعلق “باستكشاف الفن كمنصة لفهم التاريخ، والنضال، والعدالة الاجتماعية، والانتصار”.