في إطار برمجة باقة مختارة من الأعمال التي حققت نجاحا متميزا في الدورة السابقة لمهرجان “كان”، والتي يتم عرضها خلال الشهر الجاري بسويسرا، قدمت المخرجة المغربية أسماء المدير مؤخراً ، بمدينة بولي، فيلمها الطويل “كذب أبيض”.
وحضر عرض فيلم “كذب أبيض”، جمهور سويسري من مختلف الشرائح، لعيش تجربة سينمائية جديدة، في أفق اكتشاف محكيات سينمائية من مختلف الروافد، من بينها أفلام عربية مثل “إن شاء الله ولد” للأردني أمجد الرشيد، و”وداعا جوليا” للسوداني محمد كردفاني.
ويعد “كذب أبيض” فيلما حميما وشخصيا ينبش في الذاكرة الشخصية والعائلية لمخرجته أسماء، التيتسائل طفولتها في حي شعبي بالدار البيضاء، لكنها تتواشج وتحيل إلى سياق مجتمعي وسياسي أشمل لمغرب الثمانينات.
وتسعى أسماء، من خلال طموحها الفني والتقني الكبير والمستمر، إلى إعادة تشكيل حيها من خلال ماكيت تدب فيه الحياة عبر مجسمات مصغرة للبيوت وتماثيل منمنمة للساكنة، يصنعها يدويا والد أسماء بمساعدة باقي أفراد الأسرة والجوار. وهذه التماثيل تفصحُ أحيانا عما لا تقدر الشخصيات الحقيقية البوح به من محظور يدمي القلوب منذ أحداث 1981 التي قضت فيها الشابة فاطمة وصولا إلى إقامة مقابر فردية للضحايا في إطار عمل هيأة الانصاف والمصالحة.
ولأن أبطال الفيلم هم أصحاب الحكاية الحقيقيون من عائلة أسماء المدير، كان على هذه الأخيرة أن ترفع تحدي إدارة فنية من نوع خاص، صبورة ومتربصة لاقتناص ما يخدم البنية الدرامية بدرجة أعلى من الصدقية والتلقائية.
لقد بدا الفيلم في مزيجه الوثائقي/المتخيل، أشبه بورشة لتحرير الكلام في بيت فرضت عليه الجدة قانون الصمت، إلا أن هذا الصمت لن يستمر طويلا، حيث سيتحتم على الجدة الانفلات من رهاب الصمت وتجازف بالحديث وتنصت للآخرين أيضا وهم يتحدثون بعد أن ظلت تطارد الصور في البيت وتمنع أي وصل بالذاكرة.
وعلى مدى عشر سنوات من مشروع سينمائي كبير في فضاء درامي/مختبر من أمتار معدودة، أدارت أسماء المدير بحرفية ودقة لعبة خطرة وهشة للتذكر والبوح والمكاشفة من أجل تصفية حساب ناعمة مع الماضي دون تفجير البنية الأسرية التي يضمها حب غير مصرح به.
وتترسخ في “كذب أبيض” بصمات من رؤية فنية شديدة الحساسية والاحتفاء بالتفاصيل الحميمية كانت قد تفتقت في تعاقب بعض أفلامها القصيرة مثل “ألوان الصمت” و”دوار السوليما” و”جمعة مباركة”.
وفي هذا الصدد، اعتبرت آن ديلسيت، المبرمجة السينمائية، التي قدمت الفيلم للجمهور السويسري، بعد تجربة سابقة مع الفيلم الوثائقي “بطاقة بريدية” لنفس المخرجة، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن “كذب أبيض” شكل صدمة جمالية بالنسبة لها، وهي التي تابعت مسار تطوير المشروع وصولا إلى تتويجه في مهرجانات دولية، بما فيها مهرجان مراكش وكان، وتأهله للقائمة القصيرة في مسابقة الأوسكار.
آن ديلسيت التي تعمل أيضا في مجال البرمجة لدى المهرجان الدولي للفيلم بمراكش ومهرجان “رؤى من الواقع” بمدينة نيون السويسرية، أشارت إلى أن الفيلم ينطوي على “قوة هائلة تنبعث من الشكل والمضمون على حد سواء. نسيج درامي مزدوج يتناغم فيه التاريخ الشخصي والعام”.
هذا، وتميل أسماء المدير، بالأساس، إلى المواضيع القريبة منها، من منطلق تجربة وجدانية مباشرة، حيث كشفت أن مشروعها القادم الذي يوجد قيد الكتابة لن يخرج عن هذا الإطار. سيكون فيلما روائيا عن واقع تعرفه.
