لا غرو أن تقطير الزهر من التقاليد والعادات المتوارثة بالمغرب، حيث اهتمت واشتهرت العديد من الأسر العريقة من مدن مغربية مختلفة بهذه الممارسة، على رأسها مدينة مراكش، فاس، ومكناس. وهذا الاهتمام عائد إلى كثرة وجود أشجار النارنج أو الرنج أو “الزنبوع” في تراب المملكة،وهو نوع من الفاكهة يشبه البرتقال شكلا ولونا، ولكن مذاقه مر، وتثمر أشجاره أجود أنواع الزهر خلال فصل الربيع.
وتتزين شوارع وبساتين وحدائق مراكش كغيرها من المدن العتيقة الأخرى، خلال الربيع، بهذه الشجرة المباركة التي تجود في هذا الفصل بأزهار بيضاء طيبة الرائحة، يتم تقطيرها لاستخراج “ماء الزّهر” أو “الما زهر” بالعامية المغربية.
ويعود أصل شجرة النارنج، بحسب المصادر التاريخية، إلى الصين، وانتقلت منها هذه الشجرة إلى بلدان مجاورة أخرى، كما عرفت واشتهرت في سوريا حيث نقلها العرب من دمشق إلى الأندلس، مثلما نقلها الصينيون إلى فرنسا وإيطاليا.
وتصنف هذه الشجرة الفواحة ضمن الحمضيات، وتعرف علميّا باسم “سيتروس أورانتيوم”، وهي شجرة تشبه شجرة البرتقال إلا أن ثمارها لا تؤكل، وتستخدم الزيوت المستخرجة من أزهارها في مجالات عدة مثل الطبخ والتجميل وغيرهما.
وساهم الأندلسيون الذين حلّوا بالمغرب خلال القرن الـ15 الميلادي في تطوير زراعة هذه الشجرة، ونقلوا إلى المغاربة طرق تقطير أزهارها لاستخراج ماء الزهر، وبدورهم، حرص المغاربة على جعل هذه الممارسة عادة متوارثة ظلت قائمة إلى اليوم.
وتبدأ عملية الجني بجمع الزهور في البداية، تليها عملية الفرز ووضع كل من الأزهار والأوراق على حدة، لتدخل لاحقا مرحلتا التجفيف والتقطير.
وتحاط عملية تقطير ماء الزهر لدى الأسر المغربية سيما في المدن العتيقة، بجملة من الإجراءات والتدابير والطقوس الخاصة، مع ما يرافق ذلك من قناعات راسخة منه كإقدام أهل البيت بتبخير مكان التقطير، مما يعتقد أنه مطهر وحامي وحافظ لهذه العملية من كل ما هو غيبي في الاعتقاد الشعبي والمغربي.
خطوات منظمة
وبخصوص الخطوات التي يجب أن تكون على نحو متتابع ومنظم للقيام بهذه العملية، فإن أول ما تقوم به النساء عند حلول فصل الربيع و ظهور زهرة النارنج، هو القطف، ويتم ذلك خلال الصباح الباكر ومن ثم يوضع ما تم قطفه داخل أوعية مصنوعة من القصب، قبل إحضار أداة التقطير (القطارة)، التي تتألف من ثلاثة أجزاء: البْرمة، والكسكاس، والراس.
طقوس مقدسة
بعد الانتهاء من عملية القطف،تُجهَّزُ الآنية المخصصة للتقطير خلال الليلة التي تسبق موعد العمل. وتحرص النساء في اليوم التالي بعد صلاة الفجر، على الاستعداد لعملية التقطير، وعادة ما تكون النساء من المتقدمات في السن ويرتدين ملابس بيضاء معطرة بالمسك، ويشترط فيهن أن يكن على وضوء، وأن يصلبن ركعتين، ثم يبدأن العمل، وأولى خطواته تنظيف المكان الذي ستتم فيه العملية، مع نشر البخور، إضافة إلى تجهيز القوارير التي سيخزن فيها ماء الزهر، وذلك من خلال تعطيرها بالعود والمسك، حتى لا تختلط رائحة الورد بأي رائحة غير مرغوب فيها.
الخوف من العين
ولعل أهم شروط هذه العملية وأولاها الخوف من العين، حيث يُعتقد أنه إذا دخلت إحدى النساء إلى مكان التقطير فإن العملية لن تنجح، على اعتبار أن هذه العملية تتسم بطابع خاص، كذلك الخوف من دخول غريب إلى مكان التقطير من أن يكون على غير طهارة.
عملية التقطير
وتمر عملية التقطير بثلاث مراحل، حيث يوضع الزهر ليستخلص منه الماء عبر ثلاثة مستويات تحدد بشدة تركيزه، وهو ما يعرف بـ”التقطيرات الثلاث”، حيث يستخرج من التقطيرة الأولى ماء زهر مركز له رائحة قوية، وهو الذي يستعمل في الغالب خلال المناسبات، ويوضع داخل “المرشة”، أما التقطيرة الثانية، فهي المستعملة في إعداد الحلويات والمشروبات، وأخيرا التقطيرة الثالثة التي تستعمل كنكهة خفيفة، أو كمعطر.