لم يكن ولوجها إلى عالم البحث والتمحيص في المجال الأدبي الشعبي المغربي محض صدفة أو بدافع الفضول، بل، شغفها وولعها بنقل تراث وطنها إلى الأجيال الصاعدة، دفعاها لتكثيف دراساتها في مجال فن الملحون. وقد أثمرت اجتهاداتها ومجهوداتها الحثيثة في هذا الميدان التراثي المتجذر في عمق التاريخ المغربي عن إصدارها الموسوم بعنوان “سلا الملحون: التاريخ والذاكرة والإبداع..على لسان أهلها”.
وفي إطار ملف شهر غشت الذي خصصته “مجلة فرح” حول فن الملحون، كان لنا هذا الحوار مع الروائية والباحثة في مجال الأدب الشعبي، الأستاذة سارة البوفي، لتقرّبنا أكثر من تجربتها في تراث الملحون، سواء ككاتبة، أو كعضوة في المكتب التنفيذي لجمعية إدريس بن المامون للبحث والإبداع في فن الملحون.
- بدءا، نود أن تقربينا أكثر من شخصية سارة البوفي؟
سارة البوفي، كاتبة وصحفية، طالبة الهندسة المعلوماتية، وباحثة في المجال الأدبي الشعبي، وعضو المكتب التنفيذي لجمعية إدريس بن المامون للبحث والإبداع في فن الملحون، بدأت رحلتي في عالم الكتابة منذ سنوات قليلة، حيث شاركت بالمعرض الدولي للنشر والكتاب في نسخته 27 بمؤلف “ ليطمئن قلبك”، بعدها شاركت بنفس المعرض في دورته 28 برواية “ملف10/20 إلى حين”، وفي النسخة 29 برواية “شوارع مظلمة”، كما أشعر في حقيقة الأمر أن للثقافة والأدب دور محوري في حياتي، وأنا شغوفة بالبحث والتعمق في التراث الثقافي الشعبي وأعمل جاهدة لنقل هذا الشغف إلى القراء من خلال كتاباتي.
- قمتِ، مؤخرا، بإصدار مؤلف جديد بعنوان “سلا الملحون: التاريخ والذاكرة والإبداع على لسان أهلها”، كيف جاءتك فكرة الكتابة عن هذا الفن؟ وماذا عن محتوى الكتاب؟
فكرة الكتابة عن فن الملحون جاءت من إعجابي الكبير بهذا الفن العريق ورغبتي وأعضاء جمعية إدريس بن المامون للبحث والإبداع في فن الملحون التي أنتمي إليها، في تسليط الضوء على تاريخه الغني ودوره الثقافي الهام في المجتمع المغربي، باعتباره أحد أهم الفنون الشعرية والغنائية التي تزخر بها الثقافة العربية، وخصوصا في المغرب، هذا الفن الشعبي الأصيل يجمع بين الكلمة العذبة واللحن الشجي، ليعبر عن الحياة اليومية والمشاعر العميقة للمجتمع، كما أنه يعكس الحكمة الشعبية والتجارب الإنسانية.
محتوى الكتاب يتناول تاريخ الملحون، تطوره، والأشخاص الذين ساهموا في إبداعه وانتشاره. كما أننا نسعى من وراء هذا الكتاب إلى استكشاف عالم الملحون بكل أبعاده وتفاصيله والغوص في تاريخه العريق الذي يمتد لقرون عديدة، لنتعرف على أبرز الشعراء ومنشدي فن الملحون الذين ساهموا في إغناء هذا التراث الثقافي مرورا عبر تسليط الضوء على أشكال القصائد وأغراضها المختلفة، وكيف تعبر عن روح الجماعة وتوثق لتجارب اجتماعية وثقافية مغربية خالصة. قمت بإجراء مجموعة من الحوارات مع أهل الفن أنفسهم وقراءة مجموعة من الكتب التوثيقية لبعض محطات الملحون مما ساعدني في إضفاء طابعاً حميمياً وأصالة على الكتاب.
- كيف كانت رحلتك الأولى لتأريخ فن الملحون؟ وما الصعوبات والعراقيل التي واجهتك؟
كانت رحلتي لتأريخ فن الملحون مليئة بالتحديات والمغامرات. لكنها في الحقيقة كانت رحلة ماتعة وجميلة، جميلة بأهلها البسطاء، الشعراء والأدباء، وأصحاب المقاهي السلاوية، الذين لا زالوا ينظمون شعر الملحون بالمقاهي يوميا بعد صلاة العصر، حيث يناقشون فيها أغراض هذا الفن العريق وينشدون القصائد ويجتمعون فقط من أجل الكلمة واللحن بدون أي مقابل، كنت أجلس لجانبهم لساعات طويلة، أستمتع ببساطتهم وبقصائدهم التي تعكس الصعوبات التي يواجهونها في حياتهم اليومية، حيث أن الملحون منذ نشأته وفي عصوره الأولى عرف على أنه صحفي زمانه وفن إبن بيئته، ولهذا السبب يشعر الشاعر عند نظمه لكلماته والمنشد عند إنشاده لقصائده بالراحة، لأنه يعبر عنه حرفيا. ومن الصعوبات التي واجهتها كانت قلة المصادر المكتوبة حول هذا الفن، مما اضطرني إلى الاعتماد بشكل كبير على الروايات الشفوية والمقابلات مع الفنانين والمحبين لهذا الفن، واستعنت كذلك ببعض الكتب التي تتوفر عليها خزانة جمعية إدريس بن المامون للبحث والإبداع في فن الملحون، وبعض المعلومات التي أخذتها على لسان بعض الأسر السلاوية العريقة التي كانت تستضيف “نزايه” الملحون بمنازلها. كما كان هناك تحدي في توثيق المعلومات بدقة وإعطاء كل شخص حقه في السرد.
- في ظل انتشار الملحون في مغربنا العربي بالوقت الراهن، ما الذي يميز الملحون المغربي عن غيره؟
الملحون المغربي يتميز بعمقه الشعري واللغوي، حيث يعبر عن الحياة اليومية والقيم الثقافية والاجتماعية للمغاربة بطريقة فنية فريدة. كما أن استخدام اللهجة المحلية والألحان الأصيلة يضفي عليه طابعاً خاصاً، مما يميزه عن غيره من أنواع الملحون في العالم العربي..
- في نظرك، كيف يمكننا الحفاظ على هذا التراث الموسيقي التليد، في ظل موجة الأغاني العصرية التي اكتسحت الساحة الفنية المغربية اليوم؟
للحفاظ على هذا التراث الموسيقي الغني، من الضروري تعزيز الوعي بأهمية الملحون من خلال التعليم والفعاليات الثقافية. كما أن دعم الفنانين المحليين ودعم المبادرات التي تهدف إلى توثيق وترويج هذا الفن يمكن أن يساهم بشكل كبير في الحفاظ عليه وتوثيقه ليصل إلى الأجيال القادمة، كما أن تشجيع الشباب على تعلم وتقدير الملحون يلعب دوراً حاسماً في استمرارية هذا التراث.
- وختاما، ماذا عن جديد إصداراتك؟
بعد “سلا الملحون: التاريخ والذاكرة والإبداع على لسان أهلها”، أعمل حالياً على مشروعين جديدين. الأول هو رواية تتناول موضوعات الحب والحرب واللجوء، والثاني هو دراسة بحثية حول تأثير الفنون الشعبية على الهوية الثقافية في المجتمعات العربية. أطمح أن أقدم إصدارات تساهم في إثراء المشهد الثقافي العربي وتلبية تطلعات القراء.