حين غدا الإلهام ميسما للكلام و بات الحس أسا للإفصاح والإعلام، واتثنى النثر وتوارى باحتشام ، أينع القريض مبديا صدق المرام مذ صاح امرأ القيس “سأشدو كما شدا ابن حذام” ، و حتى إذا كان الفرزدق قد صدح بقولته المغرقة ي جبروتها “إذا صاحت الدجاجة فاذبحوها” في وجه امرأة نظمت شعرا، فإن ذلك لم يثن نساء مُنحن موهبة الإفصاح على أن يُعلنّأنهن أتراب الرجال في إلهاب جبين الحروف فكانت الخنساء و مثلها ليلى الأخيلية في عهد مضى، و بدت فدوى طوقان ونازك الملائكة التي كما يقول الدكتور عبد الله الغدامي في كتابه تأنيث القصيدة: “حطمت أهم رموز الفحولة أبرز علامات الذكورة وهو عمود الشعر”.
لكننا لن نخوض البتة الآن غمار هذا الشعر الفصيح الذي باتت البلاغة ديدنه والبيان سمته في لغة كان الإعراب ميسمها، وإنما سننحو صوب لون آخر من القريض أينع في أدبنا المغربي وأزهر في ثنايا الثقافة الشعبية فتزيت ألفاظه بكساء لغة التخاطب اليومي، ذلكم هو شعر الملحون ، وإذا كان الملحون قد تقرر سلفا بأنه ذلك الشعر المنظوم بلغة غير فصيحة سواء كان نعته هذا مشتقا من اللحن بمعنى “الخطأ النحوي” كما أعلمنا العلامة عباس الجراري أو منحدرا من “اللحن بمعنى الغناء”, حسبما أخبرنا الأستاذ محمد الفاسي، فلا غرو أنه يحق لنا أن نتساءل :
إلى أي مدى استطاعت المرأة كذات مبدعة أن تكون منشئة لهذا الشعر ؟
وكيف ساهمت في إخصــــــــــــــــابه حينما غدت موضــــــــوعا له ؟
المرأة كذات مبدعة لشعر الملحون :
منذ بٌدوّ هذا الشعرذي المنحى العامي ، وإذا نظرنا إلى المرأة كرحم مبدعة وذات ناظمة له, فسوف نلفي أن صوتها ظل خافتا متواريا و قد أهدر الرواة – على ما يبدو- أكثر ما جادت به، فكيف يعقل ألا نصادف على امتداد قرون ليست باليسيرة خلا ثلاث شاعرات لا تذكرلنا إلا مطالع أو أبيات لهن؟ و هن رميلة أخت عبد المومن الموحدي التي قال عنها صاحب العاطل الحالي إنها كانت تنظم الأزجال الرائقة الفائقة، لكنه لا يورد لها سوى مطلع من زجلية لها في عشيقها ابن غرلة و هو:
مشى السهر حيران حتى رأى إنسان عيني وقف
وفيها تقول وهي تصف خالا بخده :
أسيمر جنان في شقة من نعمان قد التحف
كما يورد د.عباس الجراري اسم شاعرتين من شفشاون ،إحداهما نعتها بالتوردانية وأورد لها بيتا في مدح امراة ريسونية هو :
للا لعزيزا بنت احمد يا بنت الجاه العالي
وأخراهما الورديغية ، ذكر لها بيتين في مدح الريسوني حين قالت:
القطب لهمام شافتو عيني فلمنام
لابس الحرير دايرتــــــــــو خضرا
وحتى إن ظل هذا الفن ذكوري السمت رجولي الهوى، فإننا ألفينا ذواتنا إزاء غرض جديد يتفتق داخله ، ذلك هو ما وسم بالعروبيات، وهي كما يقول محمد الفاسي “:فقر شعرية صغيرة تدور حول الحب والغرام وما يكابده العاشق جراء عاطفته الملتهبة وهذه العروبيات كلها من إنتاج النساء” ، ومع أن هذه الأشعار الزجلية لم تنسب إلى امرأة بعينها وإنما عدت إنتاجا أنثويا جمعيا، فإنها تحدت المألوف حين جاهرت بحالات توقد العشق وأبدت مشاعر الصبابة والوجد لنساء مرهفات الحس أرهقهن الهوى حين اكتوين بجذوته، ومن هذه الأشعار:
يا محبوبي حبني كيف نحبك
وبعد المحبة شركوني فيك الناس
وإلا كنت خاتم صبعي لك مقاس
وإلا كنت تهليل الذهب أنا لك حمالة
وإلا كنت خنجر أنا نتحرف بك
نتساقرو عليك واللي غلب فينا يديك
بل قد يبعث اشتداد الشوق المرأة على ذكر اسم الحبيب غير هيابة لما تمليه الأعراف من تستر وكتمان حال ،تقول :
احمد احمد وما سباني غير احمد
يا مربوع القد يا صهارج عيني
و مناين نشوف احمد تفرفر كبدتي
وتشعل نيراني
ولا فوق محبة احمد غير ربي الفوقاني
وغير بعيد عن هذا النمط، بدا بجلاء غرض نسائي آخر هو ” السلامات” ،وهي منظومات تجرأت فيها النساء على إزالة وشاح الخفر وأعلنّ عشقهن وبعثن السلام إلى أحبتهن ممتطيات صهوة هذا الشعر غيرالفصيح ومنها:
سلمت عليك في الليمونة
والليمونة طابت والدلات
ملي خديتك يا حبيبي
شوف حالتي كيــــولات
سلمت عليك فالتفاح
والتفاح معضوض من جيهتين
الناس كتصبر عام وعامين
وانا ما نصبر عليك حتى قسمين
فإذا كانت المرأة وهي تمتلك أس الكلام كذات مبدعة قد استطاعت أن تمنحنا هذا القريض ، فكيف تأتي لها أن تنمي فنا قوليا عريقا هو الملحون ، حين صارت موضوعا له؟
المرأة موضوعا لشعر الملحون :
من بين سراريب الملحون وحرابه ، وخلل سجية النظام وكريحة شيوخ هذا العلم الموهوب، يطالعنا طيف المرأة وقد تربعت بجلال على عرش هذا الشعر الذي أشرع لها كلتا ذراعيه، وبغدوها ملهمة لناظميه أفلحت إلى حد بعيد في إغناء أغراضه ومضامينه، حين منحت مبدعيه هبة القول في مواضيع ما وطئوها من قبل.
لقد قصر فن الملحون في مرحلة أولى على أغراض بذاتها هي تلك التي أوردها د. عباس الجراري في كتابه الإبداع الشعبي أي “المديح النبوي أو ما يعرف بالتصلية لا يخرجون عنه إلا لشعر الحكم و المواعظ ” ، وحين تجرأ قارضه على التشبيب بالمرأة فإن ذلك كان إيذانا بتطور هذا الفن الذي ما استطاع بعدها الفكاك من سطوة النساء ، حتى أن الشاعر محمد بن عمرو الملقب بالعاشق حين نظم قصيدته الغزلية “زهرة “، اعتبر زنديقا وكاد أن يرجم لأنه دنا من دائرة محظور عليه ملامستها ، حتى قال عنه الشاعر المراني:
زنديق ابن الزنديق اللي ايرادنا فساق يستاهل الرجيم بلحجر حتى يموت بالتحقيق
ومن حينها لم يستطع شيوخ هذا الفن أن يجدوا فكاكا من سحر أنثوي أخاذ تسلل ليأسر ألفاظهم، فقد اخترقت المرأة نصوص الملحون باقتدار، فطفت مضامينه بإيحاء دلالها وهكذا ظهر:
1- فن العشاقي :
وهو ذلك السمت القولي الذي تحمل قصائده أسماء العشيقات كزينب وزهرة وعبلة و خدوج، و قد أحصى محمد الفاسي في الجزء الثاني من معلمة الملحون 100 قصيدة في مائة غانية تحمل كل منها اسما انثويا باذخ الدلال ، وفي قصائد كتلك يطالعنا الجسد الأنثوي بكل إلقه وبهائه ، فإذا هو القد الممشوق والقوام الأهيف والعيون النجل ، يقول المدغري:
والمبســــم جوهر فالثغـــــــــر عقد و مصيون فالشفوف العكريا
واسباني يوم انظرت القدود تميل تساعف النسيـــــم ايمين وايســار
واسوالـــف والظفاير الشعـــــر والياقوت الرفيع بنســــــوم ذكيــا
وبالجبيــــن نونين فالســطـــــر عطفو عطفا على السيوف المسقيا
والشفر الدباح بالصوارم واهداب مريشين فوق الغنــــج والسحــــار
والخد العكـــــري ابـــلا عكــر والخال غلام فوق وردا محضيـــا
ولعل هذا الحسن الآسر بات سمة مشتركة بين المعشوقات برمتهن، بيد أن شيخ أشياخ مراكش محمد بن محمد الملحوني أطل علينا في قصيدته ماما أو الضراوية بنموذج شعري خالف فيه صاحبه قيم الجمال المعهودة في المرأة ، فإذا وصف شعراء الملحون قد الحبيبة بالغزال ، فإنه نعت قوام التي يهوى بالنخلة لطول قامتها، وإذا وسموا الشعر المرسل الأملس بثعبان ينساب فوق الكتفين ،فإنه جعل شعر ضراويته كحبات سوداء منثورة على الرأس شبيهة بحبوب الابزار، وإذا ضارعوا الأنف بزهر السوسان فإن أنف صاحبته أفطس يتدلى على حافة الخدين مجنحا ذات اليمين وذات الشمال يقول:
الله الله كدهـــــا كــــد النخلة وشعرها ماما ما يغطي ودنيها
لها جبها ضاويا كيف السطلة واحواجبها عراض مع عينيها
منخرها زلو والسر عليها
2- شعر الغـــزل:
وبه أفصح الشاعر عما يتلظى بين جوانحه من الوجد والهيام وما يقاسيه من سهاد في سبيل هذا الهوى المضني، مثلما نجد لدى الشاعر المدغري وبوعمرو وابن سليمان في قوله:
نارك فالقلب تروج
اهواك صاك لي سلطان احريج
زادني فالخاطر تهجيج
سال حسامو للتوديج
سرت مفلوج من زينها المفلوج
ولا غرو أن المرأة ساهمت في ظهور مضامين جديدة داخل شعر الملحون كالمحبوب واللايم والجافي والعاشقوالحمام والشمعة، يقول العمراني في حربة شمعته وهو يضاهي حالها بحاله:
الله يـــــا الشمعــــة ردي سؤالــــــي واشبيك فالليالي تبكي ما دالك شعيلا
وإيدا باكيا بسقامك شوفي سقام حالي من قيس واراتو بعد افناه سقام ليل
وكذا قصائد المرسول والرقاص ، حين توسل الشاعر بإيفاد مبعوث إلى حبيبته يخبرها بما يكابده عله يأتيه بأنباء عنها، كما نجد عند الغرابلي:
أمر سولي الله فدني واخبرني عن سيرتو وحالو سالي ولا كيفي اهميم شاكي باكي نكدان
كما بدت قصائد القاضي حيث لجأ المحب إلى القضاء عساه ينصفه من جور المحبوبة، مثلما نجد عند المدغري والبغدادي، لكن أطرف قاض كان قاضي امتيرد لأنه كاد أن يغدو خصما للعاشق حين أراد أن ينازعه فيمن هوى يقول:
القاضــــي يحســـــــن عونــــــــــــي ما فظنـــي ولهي تغيـب عنـــي
قلت له خاف من المولى واشف لضرار أنا عشيق كيف اجرى لي نهجار
وظهر موضوع طريف ايضا هو الفقيه حين نحا العاشق صوب السحر وقراءة الطالع والتوسل بالتمائموالتعاويذ والجداول لاستمالة الحبيبة، مثلما فعل الجيلالي متيرد الذي لاذ في قصيدته بطالب ممن يسطرون الجداول حاذق في الحكمة وعلم التنجيم ،كي يوفق بينه وبين صبّه طامو ، يقول:
القيت طالب خطاط افلالسي تعرفو مدوب احكيم
لفــــــــــــــــقيه قال لي محبوبك بعد الصدود يقدم
ها حرز التجلــــــيــــبو
علقــــــو تنظر لو برهان
حجبـــــو واحضيه على الدوام
تنــــــج من كل رجيم
وإذ لم يغب عن خلد شاعر الملحون أن يتغنى بحلي المرأة كالخاتم والدملج والخلخال فإن ولعه بها أفرز مضمونین آخرین رصدا حالات تجملها و افتتانها :
أولهما قصائد الفصادة: التي صورت الحفلات الشعبية التي كانت تقام لإخراج الدم أو الشراطة، عبر خط أشكال هندسية على ساق المعشوقة كما قال متيرد:
أش را من لا حضر مع وجوه لريام يوم حنطو فثياب العز للفصادة
كما طالعتنا قصائد الحجّام التي وصف فيها شاعر الملحون مراسيم الوشم أي تزيين صدر المحبوبة بألوان من الصور والرسوم ، وقد طلب الشاعر العمراني من الحجام أن يختار لبياض محبوبته ما يناسبه من الوشم وأن يرسم بين حواجبها خمسة الكف لتصد الحاسدين، قائلا :
بين الحواجب اعمل خمسا تلقى إلا يباركفيها وإيشوف
أما المدغري فنراه يغضب لعدم تمكنه من الحضور علملية الوشم وعدم استشارة الحجام له فيما رسم ويرفع دعواه
الى القاضي قائلا:
وا جابك يا حجام لغزالي
الله باش من موجب جرحت الباهيا طامو بوخلخال
لوكنت حاضر ما تمنع لي
كيف تجرح زهوت نجلي يا الحجام وتفلت لي
كما برز داخل هذا الشعر غرض ثالث هو ما يسمى بالتراجم وتحته انضوت قصائد الحراز، ويبدو أن امتيرد كان صاحب فكرة التنكر للوصول إلى محبوبته لإغراء محرزها والايقاع به وذلك في حرازه الشهير:
حراز للا لرسامو جيتو نصيب قلبو نصراني كيف عارفو مازال
وقد تقمص العاشق أشكال عدة لينعم بالوصال فبدت قصائد الضيف والجار والكناوي وغيرها، وغير بعيد عن ذلك نصادف نمو غرض أخر تسيدته المرأة وسكنت تجاويف اللغة وعقدت نواصيها بتاء التأنيث، وتلك هي قصائد الخصام أو الفراجا وهي منافرات ومفاخرات تسلك دأب التهاجي بيد أن الطريف حقا هو أن شاعر الملحون أبدعها على لسان المرأة ،ومن أروعها قصيدتا المدينية و العروبية قصيدة العروس و حماتها ،ومن هذه الأخيرة هذه الأبيات :
ما أعظمها فالزمان قصا سارت یا فاهم الخطاب
بخصام كثيــــــر خـــرق عاد بين عكوزا وشابــــا
قالت للشايبا اكبـــــــرت واهتــــــرت يا لعايبـــــا
وحري بنا أن نتذكر قصيدة ابن داوود الخصام بين عشر جوار وهي عبارة عن خمس محاورات ثنائية يقولفيها :
والضـــــد مع ضــــــــدو يتعايـــــرو بالجهاد
بيضا مع الحميرا وشطا مع القصيرا وعجوزة و الصغيرا
والساكنة البلاد بالوجه المحجوب وعربيــــــــــة بغنبوب
واللي ملات بالشحم في عرقا واللي تبلات بالــــــرقا
وبعيدا عن هذه المرأة المحبوبة وتلك الآ سرة المرغوبة،نتعثر داخل شعر الملحون بقصائد لم ترغب في المرأة على الاطلاق بقدر ما شكل المقت أسا لصياغتها ،ومع هذا يجب الإقرار بأن المرأة كانت الباعث على نظمها ، وذلك هو القريض الذي نظر اليها بوصفها مصدرا للشرور و علة الإغواء والفتنة ، ويأتي على رأسها جميعا رباعيات سيدي عبد الرحمان المجذوب حين قال :
بهت النسا بهتين من بهتهم جيت هارب
يتحزمو باللفاع ويتخللوا بالعقارب
لكن هذه المرأة عينها قد تستحيل داخل هذا الشعر ذاته إلى رمز كما نلفي لدى زجالين متصوفين كالكندوز وابن ابراهيم الذي نحا صوب المرأة لا كذات خلبت لبه وإنما ليتخذها مطية للتشوق للديار المقدسة، فلم تكن مباركة في قصيدته الشهيرة غير مكة المكرمة يقول :
ديـــــري يا للا معــاك
شرع المولى إيلا هداك
نستحسن في ابها جمالك
أمولاتــــــي مبـــــاركة
وقد ذاع صيت سيدي قدور العلمي في هذا السمت من القريض خاصة في قصيدته طامو بهيج الخداد التي قيل أنه رمز بها إلى السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ومطلعها :
طامو يا بهيج الخدادة يا الحر المنكادة يا غاية التمجيد
ديري لعاشقك مورادو يــــــنكي بيـــــك كــــل حــسود
لقد صفا معين شعر الملحون إذن وراق حين باتت المرأة منبعه، فمنها نهل وبها افتتن، وإليها حن وعنها رغب، فغدت باعثة على التغيير حين ألهمته وألهبت حنايا ناظميه