تودوروف: من بلاغة الأدب إلى بلاغة الفضاء العمومي

- Advertisement -

تودوروف: من بلاغة الأدب إلى بلاغة الفضاء العمومي

                                                                                                                                                                                      يوسف الإدريسي – مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف

يواظب مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف على تأثيت رأسماله الرمزي بمصنفات علمية ذات أهمية خاصة. وفي هذا السياق، وضمن سلسلة دراسات وأبحاث يأتي كتاب: تودوروف المغترب المتمرد ووحدة المتعدد، الذي أراده عضو المختبر الأستاذ الزميل الدكتور عبد الجليل بن محمد الأزدي تأبينا علميا للناقد الذي غادرنا مؤخرا(2017) تزفيتان تودوروف. يستهل الكتاب وجوده بمقدمة، لتتوالى فقراته، وهي 17 بالتحديد، راصدة تطورات الكتابة عند تودوروف وتحولاتها من بلاغة الدلالة الأدبية إلى بلاغة التمرد والفضاءات العمومية.

وتودوروف مثقف إنساني جدير بالاهتمام والاحتـرام. وقد شكل في سبعينيات القرن الماضي واحدا من طليعة نقاد الأدب والـمُنَظِّرين اللامعين. وحظيت كتاباته بأهمية منقطعة النظيـر، كما تم استقبالها وتلقيها في الحقل الثقافي بقدر كبيـر من التثمين والتقدير، وخاصة: نظرية الأدب – نصوص الشكلانيين الروس (1965)،  الأدب والدلالة (1967)، نحوُ الديكاميرون (1969)، مدخل إلى الأدب العجائبـي (1970)،  شعريات النثـر (1971)، الشعريات (1977)، نظريات الرمز (1977)، الرمزية والتأويل (1978)، ميخائيل باختيـن – المبدأ الحواري (1981)…

وقد أسهم في ترسيخ المقاربة البنيوية للنصوص والأجناس الأدبية، بقدر إسهامه في تعريف الفرنسيين وغيرهم بالميراث الشكلاني الروسي وبمداخلات ميخائيل باختين في حقل الرواية وفلسفة اللغة. ومجمل هذه الإسهامات لا يُقدَّر بثمن، وشكَّلَ ولا زال مرجعا لا مندوحة عنه للمشتغل بالأدب والمنشغل بأسئلة البلاغة الجديدة وتحليل السرد والمقاربة المحايِثَة للنصوص والأجناس.

ولم تنفصل اهتماماته بالمجال العمومي عن انشغالاته العلمية – الأكاديمية، إذ يمكن مَنْ يُتابِع كتاباتِه التقاط خيط أحمر يشكل لازمة الفكر والتفكيـر، ابتداء من ترجمة نصوص الشكلانيين الروس (1965)ن وصولا إلى أعداء الديمقراطية (2012)، والمتمردون (2015)، وانتصار الفنان (2017)، مرورا طبعا بكتابه عن مواجهة المطلق أو الشر المستطير (1991) الذي أبان فيه عن صرامة عالية في التحليل وهو يسائل المنطق الداخلي المحايث للنظام  الكُلِيَّاني  ومراكز الاعتقال ومعسكرات الإبادة  من خلا ل  شهادات  ضحايا الستالينية والنازية.

والقصد هنا أخلاقي: إذ على النقيض تماما من الحكم المسبق  المنتشر، لم يختف التضامن والتكافل والتآزر في معسكرات الاعتقال والإبادة، بل اتخذت أشكالا وصيغا  مختلفة سعى تودوروف إلى تمييزها  بصفتها تستجيب لفضائل خاصة ومتميزة. ذلك أن الهَبَّات والانتفاضات والثورات وصيغ التضامن العملية والفاعلة وأشكال الشفقة والرحمة تمثل مواقف تؤكد إنسانية الإنسان في مواجهة أقصى درجات المهانة والعبث بكرامة الإنسان. صحيح أن هذه الصيغ يمكن ان تكون بتوجيه إيديولوجي، غير أنها ليست كذلك دائما، طالما يكون محركها الشفقة أو مجرد الاهتمام بالآخر والقلق عليه.

 ومن رأي تودوروف أن هذه الأشكال لا تتساوى في جميع الأزمنة لأنها لا تستعمل القيم نفسها: فالبعض يفضل قيما تجريدية، والبعض الأخر يفضل أشخاصا بأعيانهم، وعلى أساس هذا التفضيل الأخيـر، يمكن تشييد أخلاق يومية تتواءم مع الزمن الراهن.

وانطلاقا من المقارنة بين شهادات ضحايا المعسكرات والناجين منها، يستخلص إفادة مقتضاها استحالة تأسيس أخلاق معينة إلا شريطة التوقف عن التفكير في الشر بمصطلح الغيرية والشذوذ. فهذه الأخلاق ممكنة انطلاقا من الأخوة التـي تمت صيانتها برغم  فظاعة المعسكر، ومن الصمود الأصم بهذا القدر أو ذاك أمام المهانة وإهدار الكرامة. يستتبع هذا طرح سؤال حارق: كيف لرب أسرة طيب أن يكون في الوقت نفسه جلادا ساديا؟ وفي سبيل الاقتراب من الجواب، يتوكأ  تودوروف على استنتاجات الكاتب الإيطالي  بريمو ليفي  Primo Levy،(1919 -1987) الذي ظل يردد هذا السؤال المرعب في كتاباته: ما ذا لو كان إنسانا (1947)، الهدنة ( 1963)، النظام المرحلي (1975)، المفتاح الانجليزي (1975). وضمن الخط العام لهذه الخلاصات،  يحلل هذا الازدواج وهذه الشكيزوفرينيا الاجتماعية التي ميزت الأنظمة التوتاليتارية، ليبين أنها موجودة بكيفية كامنة في جميع المجتمعات. إن التفرقة والتخصص والنفعية والكلبية تساهم جميعا في اغتيال الوعي الأخلاقي وتقود المواطن المنصاع والمنبطح إلى إلغاء كل سؤال عن مردودية أفعاله خارج مداره الخاص وحدوده الضيقة.

وعلى هذا النحو، فكل شيء تحت نيـر الأنظمة الكليانية وفي معسكرات الاعتقال تمت برمجته وفق ما يجعل الجلاد ينسى إنسانية الضحية. ويؤكد تودوروف أن ما أتاح هذا الشر الهائل والمستطير سمات مشتركة ويومية في حياتنا جميعا: تجزئة العام ونزع الطابع الشخصي عن العلاقات الإنسانية، وتطبيق الفكر الأداتي، العلمي والتكنولوجي، في العلاقات بين الناس. هكذا يكشف المطلق المتطرف عن شرٍّ تعرف الديمقراطيات الغربية كيف تحتويهن كما تعرف حجم الكارثة التـي يهدد بها المجتمع والوجود والأخلاق.

وعليه، فالأخلاق ملزمة بالاتكاء على الاعتراف بسهولة ويُسْرِ الخيـر والشر معا، وباتخاذ ما يلزم من الحيطة والحذر دائما في سبيل النظر إلى الشخص الإنساني بصفته غاية في ذاته، لا بصفته وسيلة.  وهذا بالتأكيد أساس الإنسية الذي تمت البرهنة عليه خارج مدارات الإيديولوجية، ويجب العض عليه بالنَّواجذ حين الرغبة في كسب قيمة إنسانية مضافة وتجنُّب عودة أزمنة الرعب والفظاعة والكوابيس.