حكايا وعبر – تعلم من ابنك بقلم بشرى شاكر

- Advertisement -

حكايا وعبر – تعلم من ابنك

بقلم بشرى شاكر / من كتاب حكايا وعبر

أحيانا، نتعلم من أطفالنا ما غفلنا عنه و نرى فيهم مرآة تربيتنا لهم، تربية هي التي تشكل مستقبلهم و تساعدهم على مسايرة أقدار تلاحقهم.

في بيت من البيوت الشعبية العادية في أحد الأحياء، حيث يكثر الصخب طوال النهار، فتسمع نداء البائعين تتعالى أصواتهم و يستدرجون المارة إلى سلعهم بذكرهم قيمة ما يبيعون مقارنة مع سعره، في ذلك الحي البسيط حيث الصخب و الضوضاء يدلان على الحياة و يشكلان الروح، كانت تعيش أسرة في بيت صغير، أسرة تتكون من أب و أم و طفل صغير و جد  عجوز بلغ من السن عتيا.

الأب إنسان بسيط ، يظل طوال يومه في العمل بحثا عن رزقه و رزق أهله و لا يعود إلا أثناء وجبة الغذاء و ليلا لكي يرتاح، و الأم كما العديد من أمهاتنا ، تزوجت حديثة السن و لا تعرف في الكون غير أسرتها بل هي كل عالمها و الجد رجل طاعن في السن، مقعد لا ينفك يتمتم بكلمات غير مفهومة و الطفل كما كل الأطفال يلعب و يلهو فهو لم يبلغ سن التمدرس بعد، و هنا العبرة و هنا خطأ بعض الآباء الذين يعتبرون الطفل الذي لم يبلغ بعد سن دخوله المدرسة كائنا عاديا بل أحيانا كثيرة كائنا منعدم الوجود، يأكل و يشرب و يلعب و ينام ، بينما هذا الطفل يشكل إنسانا بكامل وعيه، إنسانا يفهم و يقدر و يعي و يحس، أحيانا و بكل عفوية و براءة ينبهك لما تاه عنك.

كان الأب حينما يعود ليلا متعبا من عمله يصحو ابنه لأنه اعتاد على انتظاره، فيجري إليه ليقبله و يداعبه قليلا ثم يمر ليلقي التحية على والده بعصبية و إذا ما طلب منه شيئا يجيبه انه متعب و انه حان موعد نومه و يفرش له فراشا اعتاد أن يفرشه لكي يجعله ينام عليه، فراشا رثا تآكل مع الزمن و تآكل أكثر من كثر نوم الجد العجوز عليه، و لكن الأب استكثر أن يشتري غيره و كانت توافقه على ذلك زوجته التي كانت تقول طفلنا أولى و والدك ، أشرف على النهاية فماذا سيستفيد جسمه الطاعن إن نام على فراش جديد أو قديم، فهو لا ينام إلا ساعات قليلة و بصعوبة ومشقة؟!! تحليل منطقي من وجه نظرهما معا، لكن أليس هناك من نسيا أن يسألاه؟

كان هذا المشهد، يتكرر كلما عاد الأب للغذاء  في البيت، فكان إذا ما وضعت زوجته المائدة و اقترب منها ليتناول غذاءه ، يضع القليل من الأكل الذي على المائدة في صحن صغير و يضعه أمام والده على فراشه خوفا من أن يسقط الجد الطعام من فمه و هو يتناوله لكبر سنه طبعا، ولما يحسه من تقزز و هو يراه يتناول طعامه بطريقة لا تليق كما كان يقول، و بعدها كان يجلس للمائدة هو و زوجته و طفلهما و كل هذا كان يحصل دون أن ينتبه للدموع في عيني والده الكبير، و هو يرى نفسه منفردا وسط أهله، غريبا عن ابنه، و رغم ذلك لم يكن ينطق بكلمة واحدة فلسانه قد طاله الكبر هو أيضا أو ربما كان يصمت لأنه لا يجد كلمات تروي ما يحسه من معاملة ابنه و فلذة كبده له.

و بهذا البيت البسيط أصبح الأمر عاديا لكل من يدخل إليه، أب ساخط على وضع عمله و يعود مرهقا و بالكاد يداعب ابنه قليلا و جد مرمي على نفس الفراش، يجلس منفردا ، يرى في الصمت ملجأه و في تمتماته تفريغا لحزنه و زوجة لا تعارض زوجها فيما يقوله أو يفعله إما لأنها توافقه في كل شيء و إما جهلا منها و إما خوفا منه.

و هكذا توالت الأيام و تشابهت إلا من يوم واحد تغيرت فيه الرؤيا و اقتربت إليكم العبرة.

في هذا اليوم الذي كان يبدو عاديا كباقي الأيام عاد الزوج إلى البيت، ليجد ابنه يلعب أمام البيت بصحن و أمامه بطانية صغيرة، فقال له ما الذي تفعله هنا؟ أتدرون ما أجابه الطفل ؟ لقد قال و بمنتهى العفوية و البراءة، أبي إن أمي ألقت هذه البطانية البالية و رمت بهذا الوعاء لأنه قديم فأخذته و جلست اغسله و أعدت البطانية، فسأله والده و لما تفعل هذا و هو يمازحه و يبتسم ابتسامة ، توقفت عند شفتيه لتتحول إلى ذهول و دهشة، بل إلى رعب كبير، حينما سمع رد الطفل الصغير و هو يقول: أنا اغسل الوعاء الذي ستأكل فيه حينما تصبح بعمر جدي، فطبعا لا يمكنك الجلوس معنا و أنت كبير جدا، و هذه البطانية ستكون مثل فراش جدي  حينما أعود من العمل لما أصير كبيرا ، أجعلها فراشا لك لكي تنام عليه.

ذهل الأب و كأنه تلقى صفعة ، تلون وجهه بألوان كثيرة، لم يلحظ أن ابنه قد خرج من جديد ليلتقي رفاقه الصغار و لم يكن يسمع جلبات لعبهم أمام باب المنزل، و لكنه كان يسمع فقط كلماته الأخيرة له، تتردد على مسامعه و كأنها حلم فظيع، للحظات ظنها دهرا بدأ يتخيل كيف سيأكل منفردا حينما يصير عجوزا  في وعاء خاص؟ و كيف سينام على فراش واحد لا يغيره، أخذ المشهد يتشكل في ذهنه و ذهب ذهنه إلى سنين بعيدة قادمة، كل هذا التفكير و الغياب عن الوعي الذي سافر من خلاله بعيدا لم تتجاوز مدته لحظات قليلة و لكنها مرت عليه أثقل من سنين عمره.

و حينما استفاق من الصفعة التي تلقاها ، هب مسرعا نحو والده يكلمه برفق و لين تعجب لهما والده و أصابه الذهول، و لم يكتف بذلك بل لقد وعده بشراء فراش جديد له و هذا ما فعله فعلا، بل و أكثر من ذلك لقد جعل له مكانا على مائدة الطعام و قدم له الأكل أولا و جعل ابنه أيضا يقدم له الفاكهة ، لا أحد كان يفهم ما حصل، لا الزوجة التي لم تنبس ببنت شفة و لا الجد الذي نطق لأول مرة بعد سنين صمت طويلة ليقول لابنه كلمات لم يسمعها منه منذ أمد بعيد ، قال له: الله يرضي عليك يا ابني.

لأول مرة يسمع هاته الكلمات و لأول مرة يحس أنه هو أيضا راض عن نفسه.

الأطفال مرآتنا التي تصف لنا تربيتنا، فلا ينفع أن ندلهم على الخير و نفعل عكسه أمامهم، لا ينفع أن نقول لهم لا تسرقوا و ننهب أمام أعينهم و أن نخيفهم من عقوبة الكذب و نطلب منهم الكذب حينما يكون في مصلحتنا.

الأطفال في سن صغيرة يتعلمون أكثر من خلال المشاهدة لا من خلال الوعظ بالكلام، فأنتم إذن أحبائي مرآة لأبنائكم فالأرض لا تطرح إلا ما زرعناه فيها.