خيوط رفيعة بين المهنية والانحياز الإعلامي

- Advertisement -

خيوط رفيعة بين المهنية والانحياز الإعلامي

بقلم د. سالم الكتبي

بعيداً عن الفضائيات الموجهة التي تتبع دول معينة في منطقتنا وتلك التي تروج لأجندة تنظيمات إرهابية معروفة، فمن متابعتي لتغطيات وسائل الاعلام العالمية الناطقة والمقروءة بالعربية حول الأحداث في دول عدة ألحظ أمور عدة منها أن بعض هذه الوسائل يتدثر برداء المهنية ويتحجج دائماً بتاريخه العريق والقواعد الحاكمة لأدائه الإعلامي، في حين أن تحليل مضمون هذه الوسائل بطريقة بسيطة يشير إلى وجود انحرافات كثيرة عن المهنية والاحتراف المهني الذي لا يقبل سوى الموضوعية قدر الإمكان والتوازن في التغطيات الإعلامية.

المهنية وقواعدها في العمل الإعلامي لا تقتصر على نقل وجهات نظر الأطراف جميعها ولكنها تتعلق أيضاً باعتبارات وقواعد عدة منها ما ينشر وما يمكن استنتاجه بين السطور من تلميحات وايماءات وايحاءات لغوية لا تخطئ عين القارئ فهم مدلولاتها. ومنها أيضاً اختيار قصص معينة ربما يمثل اختيارها بحد ذاته رسالة معينة من الوسيلة إلى الجمهور.

في رحلة البحث عن الموضوعية والمهنية مزالق وأشواك كثيرة، ومن الصعب إلزام وسائل الاعلام بالمهنية التامة لأن القائمين بالاتصال من العاملين في هذه الوسائل لديهم آراء ومضامين ربما تميل لهذا الطرف أو ذاك، وربما تخالف في بعض الأحيان رسالة الوسيلة نفسها وتوجهاتها، وهنا يبرز الصراع الخفي حول كيفية تمرير الرسائل والمضامين بحرفية مهنية عالية من دون إخلال ظاهر بمهنية الوسيلة أو إظهارها بمظهر المنحاز أو المخالف لقواعد ومعايير العمل المهني.

بالنسبة لي، تبقى الشفافية الإعلامية وإظهار الحقائق اهم من أي مبدأ آخر، ولكن الإشكالية في أن بعض وسائل الاعلام تقع أحيانا فريسة لوجهة النظر المعارضة وتخضع لفكر شيطنة السلطة وتستسلم لها يتردد اعتقاداً بأن المعارضة على صواب بشكل دائم والسلطة على خطأ بشكل دائم، والحقيقة أن هذه المعادلة ليست حقيقية بل من اختلاق أطراف تريد تكريس واقع معين.

المفترض في الاعلام ألا يتعاطف مع الأقل قوة لدرجة تؤثر سلباً في نقل الحقائق للجمهور، فالقوة والضعف في مساحات التجاذب السياسي ليست مطلقة ولا يجب عل الاعلام أن يتخلى عن دوره في نقل الحقائق بأمانة أو ينساق وراء فكرة ما يرددها طرف معين، بل عليه أن يبحث دائماً عن الحقيقة وأن يقدمها من دون رتوش أو انحيازات قد تحرف مسار المهنية عن أهدافه.

ألاحظ أيضاً أن بعض التقارير الإعلامية التي تنشرها وسائل اعلام غربية مرموقة تنتمي شكلاً إلى المهنية ولكن قراءة هذه التقارير بتمعن ربما يفضي إلى نتيجة مغايرة تماماً، فكما قلت هناك علامات صغيرة على غياب المهنية مثل المساحة المخصصة لكل الأطراف ذات الصلة بموضوع التغطية، وهنا قد يبدو من غير المنطقي تخصيص المساحات ذاتها للتعليق من الأطراف جميعها، فعلى سبيل المثال لا يمكن مثلاً ـ وهذا صحيح ـ تخصيص مساحة للتعليق الرسمي على موضوع ما توازي المساحة ذاتها لأطراف كثيرة ذات صلة بالموضوع وربما تمتلك آراء ووجهات نظر مخالفة للموقف الرسمي على سبيل المثال. هذا التفاوت في المساحات مسألة مفهومة ومبررة مهنياً ولكن طريقة صياغة الموقف الرسمي وأسلوب التعليق عليه وتقديمه والمكان الذي يدرج فيه ضمن التقرير قد يفرغ هذا الموقف من مضمونه بل قد يجعل منه شاهد اثبات للموضوع وينحرف به عن مساره، وكلنا يدرك أن في اللغة أدوات كثيرة يمكن توظيفها في هذا الشأن مثل الكلمات والعبارات جمالة الأوجه وتلك التي تحمل من التشكيك أكثر ما تحمل من الموضوعية وغير ذلك من أساليب تحفل بها الكتابة.

الكل يدرك أن الحفاظ على المسارات المهنية للوسيلة الإعلامية في لحظات السخونة والتوترات السياسية والعسكرية وخصوصا إذا تعلق الأمر بأوطان ودول يحمل العاملين بالوسيلة جنسياتها وينتمون إليها ويصبحون موضع استقطاب ـ على الأقل في عواطفهم ووجهات نظرهم ـ مسألة صعبة ومعقدة للغاية، ولكن تآكل هذه المصداقية وانحسارها أحيانا، ولا نقول غيابها أو تغييبه، يصب في مصلحة وسائل التواصل الاجتماعي ويمنحها جرعات اوكسجين إضافية للتمدد والتوسع وكسب الثقة لدى الشعوب باعتبارها بديلاً للإعلام التقليدي.