درس كورونا المجيد
درس كورونا المجيد
بقلم زهير الشرادي- تطوان- المغرب
في لحظات الكوارث الطبيعية و الحروب و المجاعات والأوبئة تتعرف الشعوب على نفسها و مجتمعاتها وعلى مؤسساتها بطريقة واضحة وشفافة ، بينما في الأوقات العادية قد تحجب الرؤية الحقيقية عند أغلب الناس خطابات السياسيين وبروباغندا الاعلاميين و نفاق النخب والسباق المحموم نحو لقمة العيش….
في ملحمة كورونا التي عاشها كوكبنا ولازال يعيشها، عرف العالم الكثير من الحقائق القاسية في زمن قياسي ….. اكتشف العالم ضعفه وزيف جبروته وهشاشة تقدمه، عرف تفاهة كل ما أنتجته البشرية من صراعات، و كيف تهوي كل الطموحات والأطماع حين تبرز أنياب الموت الجماعي فجأة من منعطف تاريخي يهدد الجميع …… اكتشف حاجة البشر إلى بعضهم البعض في اللحظة نفسها التي اضطرهم كائن مجهري إلى اتخاذ مسافة أمان مع الآخر …..
العالم الأول لم يكن أولا بالطريقة التي تخيلناها، والعالم الثالث لم يكن ثالثا أيضا ، ومجتمعات الاستهلاك والفرجة وبهرجة الألوان ونفخ بالونات التفاهة لم تكن جاهزة أبدا لتصمد في أول محك حقيقي ….. عرف المتقدمون بأن دولهم كانت تخدعهم وأن حريتهم المثالية كانت تشبه السماح لجرذ بحرية الحركة في قفص، وأن رفاههم معلق على كف عفريت ….. وعرف المتخلفون بأنهم سيشرفون على الانقراض ما لم يرتقوا أدراجا أخرى في سلم التاريخ ….. وأدرك المتدينون بأن آلهتهم أرخص بكثير من ثمن المعابد التي بنيت لأجلها ….. و أدرك العلماء بأن نزالهم المحموم في حلبة العلم لم يكن ترفا أبدا، بل هو صراع وجود ….. و أدرك النجوم و المشاهير و الساسة بأنهم مجرد نسانيس ثرية مترفة معروضة للفرجة ، وحين يجد الجد ، فإنهم أعجز عن حماية أو إفادة انفسهم ، ناهيك عن تقديم شيء للآخرين …..
درس كورونا المجيد سواء كان طفرة طبيعية او من صنع كاليجولا جديد ، أثبت كذلك أن السلط الشمولية أكثر فائدة في لحظات الاستثناء من الأنظمة التي ترش بارفان الديمقراطية ، و أن بدائية الإنسان تبقى دائما كامنة مثل بركان خامد أو ورم قديم ، و أن المعجم السياسي العالمي يحتاج إلى تدعيمه بمصطلحات و مفاهيم جديدة، لأن العمر الافتراضي لبعض المُسَّلمات قد انتهى …..
فيروسنا الصغير القاتل ذو الإسم الأنيق ، بقدر ما أفزع الإنسان ، بقدر ما كان هدية للطبيعة من طرف أصغر عناصرها ، فتقليص النشاط البشري إلى حده الأدنى جعل البيئة تعيش أزهى لحظاتها منذ عشرات السنين ، لتتجلى الحقيقة الأكثر بداهة : الإنسان عدو نفسه و عدو محيطه ، البيئة تحتفل في اللحظة نفسها التي أُجبر الإنسان فيها على سجن نفسه بنفسه ، عرس الطبيعة كان يوازي مأتم البشرية الجماعي ….
و بعد أن تنحسر سحابة الموت هذه ، هل سيتذكر الإنسان أن الطبيعة ليست مسخرة له كما يتوهم ، و أنه ليس كائنا علويا كما أقنعوه ، بل هو مجرد فرع من شجرة الحياة ؟ ……
أثبت التاريخ أن تراكم الخبرات البشرية هو من يعطي الحضارة امتدادها ، تراكم الخبرات المعرفية و السياسية و الاقتصادية و العسكرية ، و لكن ذاكرته الإنسانية مثقوبة ، لم يفدها تراكم التجارب بأي شيء …. هو الإنسان البدائي الهمجي يعود في كل حقبة بشكل أكثر فظاعة مع الكثير من التمويه ، نفس الكائن المتغطرس المدمر لنفسه و لمحيطه و للآخر ، مهما بلغت أناقة وحشيته …..
و لهذا ، بعد أن ينقشع الضباب ، و يستقر الموتى في قبورهم و ينفض الأحياء عنهم غبار الهلع ، سيعود كل شيء إلى مجراه اللاطبيعي …… ستهدأ الشعوب و تتحدث الحكومات و تتحرك آلة المال العملاقة و ينشط سباق التسلح المجنون ، و ستختنق الطبيعة و يرجع العبيد إلى مصانعهم ، و ستعود مباريات الليغا ، و ينقسم العالم من جديد إلى أول و ثالث و عاشر ، و سيختفي الدكاترة و العلماء ، و يخرج منتجو و ممثلو هوليود كي يرتدوا الكمامات وبالطوات الأطباء ليصوروا لنا فيلم القرن ، كيف انتصرت البشرية على فيروس كورونا في ملحمة رهيبة لن تنسى ، و ستفوز بطلة الفيلم بالأوسكار بالتأكيد ، و تتسلم جائزتها أمام الكاميرا بابتسامة ساحرة و هي ترتدي فستانا أسودا يساوي عشرين جهاز تنفس لم يوجد يوما ما حين احتاجه حتى مواطنون من العالم ” الأول ” …….
و كل فيروس و نحن بألف خير ……