في إحدى غرف منزل أسرتها التي احتلتها في محافظة المنستير وسط شرقي تونس، جلست أمان الأجنف على طاولتها وبجانبها فنجان قهوتها المعتادة وعدّة رسم الماندالا من أقلام وفرش وطلاء، واختارت لهذا اليوم أن تملأ بياض ورقة الرسم زرقة وحياة وأملا.
بخفة تدل على براعة صاحبتها، انطلقت الفتاة الشابة في رسم دائرة بالفرجار، ثم جزّأتها بقلم الرصاص إلى أربعة أقسام لتفسح في مرحلة ثانية المجال لخيالها الرحب المبدع لرسم أشكال هندسية متنوعة.
قبل خمس سنوات، تزوجت شقيقة أمان الوحيدة وسافرت وتركتها ضحية للشعور بالوحدة، وهو الشعور الذي فاقمه تحملها مسؤولية الأسرة وتدهور صحة والدتها في تلك الفترة، مما تسبب لها في حالة اكتئاب وضغط نفسي شديديْن.
صدفة من لبنان
غير أن الصدفة لعبت دورا هاما في تقرير مصير أمان (27 عاما) بمشاهدتها مقطعا مسجلا لفتاة لبنانية تتحدث عن فن الماندالا وعن استعماله وسيلة للعلاج من الضغوط النفسية، “فمجرد تلوين التفاصيل والزخارف العميقة والمتشابكة يبعث على الهدوء والراحة”، كما تؤكد للجزيرة نت.
تحدثت الشابة لشقيقتها عن الأمر فما كان من الأخيرة إلا أن أهدتها كتابا مليئا برسومات الماندالا لتساعدها على التخلص من المشاعر السلبية التي تسيطر عليها.
وقعت أمان في حب الكتاب، لكنها قررت أن لا تكتفي بالتلوين فحسب، بل أن تتولى بنفسها رسم رسومات الماندالا الخاصة بها وتلوينها، وتركت الكتاب كما هو عليه إلى اليوم.
الفن المؤنس
يُعرف فن الماندالا بفن البهجة والسعادة، وهو يتميز بالبساطة وبسهولة إتقانه من الجميع، ويرتكز على رسم دائرة تُقسّم إلى أجزاء تتفرّع من تلك الأجزاء أشكالٌ هندسية تختلف باختلاف الرسام.
تعتبر أمان فن الماندالا مؤنسها، وتقول “التركيز على التفاصيل الصغيرة لهذه الأشكال ينزع عني الشعور بالقلق من كل ما يدور حولي ويأخذني إلى عالم السكينة ويقطع صلتي بالعالم الخارجي، فيُخلق رابطا قويا بيني وبين القطعة التي أرسمها فقط”. اعلان
ولاقت رسوماتها المنشورة على صفحتيها على فيسبوك وإنستغرام استحسانا كبيرا من المتابعين الذين اقترحوا عليها الدخول في مرحلة الإنتاج للعموم، فتقبلت الفتاة الفكرة بصدر رحب، وقررت تطويرها وتجديدها من الرسم على الورق إلى الرسم على الخشب.
توضح أمان للجزيرة نت أن الماندالا يتطلب من رسامه صبرا طويلا ولكنه يصبح مضاعفا عندما يكون الرسم على الخشب، حيث يتطلب جهدا كبيرا بدءا بقص قطعة الخشب وإعدادها وغسلها وتنظيفها فالانتظار حتى تجف، ثم الرسم عليها بقلم الرصاص، لتأتي في الأخير مرحلة التلوين التي تأخذ هي الأخرى وقتا.
تجديد وابتكار
نالت معلقات الماندالا الحائطية الخشبية إعجاب متابعيها وأصدقائها، مما شجعها على الانتقال إلى مرحلة جديدة بالرسم على فناجين القهوة ومحافظ النقود المصنوعة من الجلد وحاملات المفاتيح والمفكرات.
يثق زبائن أمان في ذوقها وفي احترافها، فيترك بعضهم لها حرية اختيار الأشكال الهندسية والألوان، في حين يقترح عليها البعض الآخر رغباته ويطلب منها المساعدة.
صعوبات
لم تجد أمان وظيفة في مجال اختصاصها في النقل والخدمات اللوجيستية، فأصبحت تعتمد على الماندالا مورد رزق حتى وإن لم يكن مربحا كثيرا، “فلا يزال الكثيرون في تونس لا يولون أهمية كبيرة لمثل هذه الأنواع من الفنون”، حسب تعبيرها.
وإلى جانب عدم تقدير البعض للقيمة الفنية للماندالا، تواجه أمان صعوبة في إيجاد مواد الرسم الخاصة بهذا الفن التي لا تتوفر في تونس، كما تؤكد.
متفائلة وضحوكة
تطمح أمان إلى مزيد من التعريف بفن الماندالا في تونس وتدريسه في المستقبل القريب، وهو ما اقترحته عليها العديد من ربات البيوت لمساعدتهن على التخلص من الضغوط النفسية التي يعانين منها والتي ارتفعت نسبتها وحدتها مع ظهور وباء كورونا وإقرار الحجر المنزلي.
جعل الماندالا منها إنسانة متفائلة وضحوكة ومحبة للحياة بعدما اكتشفت بداخلها قوة فجرتها على الورق، وهي تؤمن بأنه بداخل كل إنسان موهبة مميزة تنتظر إعطاءها فرصة لتخرج إلى النور، وتعيد لذلك الشخص بريق الأمل الذي فقده بسبب ظروف قاسية مر بها.
أعاد الماندالا لأمان الأمان الذي فقدته في مرحلة معينة من حياتها، فصار هذا الفن كل شيء بالنسبة لها، واقترن اسمهما ببعض وأصبح اسم شهرتها “أمان ماندالا”.
المصدر الجزيرة