يعتبر الورد لغة كاملة مستقلة بذاتها، وروحا تعانق كبرياء، يعبر عن الفرح والحب ويرادف الجمال والصفاء، وقديما قيل إن الورد حياة، وعطره باب من أبواب السماء. والورد العطري، بقلعة مكونة المغربية جزء من هوية، ومصدر معيش يومي، ومحرك دورة اقتصادية. يشار إليه بالبنان، وتصدر منتوجاته لمختلف البلدان، ويشغل الرجال والنساء والولدان.
يزين الواحة، وأريجه يعطر المكان، يُحتفى به في مهرجان يقصده التجار والسياح وعشاق الجمال، تناقلت صيته الركبان قبل أن يخمده وباء كورونا. الجزيرة نت حلت بوادي الورد، وعاشت مع نسائه يوم قطاف الجنان.
الورد قلب القلعة وهويتها
كي نصل وادي الورود، كان علينا أن نقضي ليلة كاملة (من 7 مساء إلى 7 صباحا) في حافلة نقل مباشر بين العاصمة وقلعة مكونة، عبر ممرات “تيشكا” الأكثر وعورة بالمغرب.
ساعدنا خجل شمس الوادي لنلحق بجزء من القطاف. تخبرنا فاطمة ذات الملامح السمراء بلهب المناخ الجاف، بلكنة تغلب عليها الأمازيغية: “الموسم يوشك على نهايته، والورد انتهى”.
بين نهري “مكون” و”دادس”، تنتصب مدينة جبلية جنوب شرق المملكة، تشير الدراسات التاريخية إلى أن نشأتها تعود إلى القرن الـ15، حيث شكلت محطة في طريق القوافل التجارية.
قبل أن تطالعك قصباتها المتماهية مع لون أرضها، يسبق إليك أريج الورد الفواح. كل شيء هنا يحيل على الورد، فهو قلب القلعة النابض، وحديثها الموحد. لونت سيارات بالوردي، ونصب مزهرية الورد يتوسط المدينة، أينما أدرت وجهك تقرأ لافتات تحيل على تقطير الورد وماء الورد ومستحضرات الورد ونقط بيع الورد وموازين الورد.
وعلى طول الشارع الرئيسي بالمدينة محلات بيع المنتجات المشتقة من الورد. “الورد عنصر من هوية ناس دادس والقلعة كلها”، كما تؤكد الإدريسية آيت حدو رئيسة تعاونية “نساء دادس” التي استقبلتنا في مقر تعاونيتها النسائية، حيث تجتمع نساء الورد لتثمين محصولهن السنوي.
عطر بين فقر وشوك
يمتد موسم الورد الدمشقي المعروف في المغرب بالورد البلدي (يصف المغاربة كل شيء أصيل بأنه بلديّ) إلى شهر ربيعي بحسب المناخ من بداية مارس/آذار حتى نهاية مايو/أيار.
وموسم القطاف السنوي، بطلاته نساء القلعة بأكملها، اللواتي يضبطن عقارب الساعة على ليونة قبضة الورد ورهافة وريقاته. يقصدن الحقول فرادى وجماعات وقد حملن “شوالات” من ثوب يصون الوردة ولا يرهقها.
تغوص النساء في أريج الورد متحملات وخز أشواكه، يدفعن التعب بالأهازيج الأمازيغية من عمق موروثهن ومعيشهن. منهن العاملات المياومات، ومنهن المزارعات المالكات اللاتي يجمعن محصول ملكياتهن أو ملكيات عوائلهن، ومنهن المنخرطات في التعاونيات والجمعيات. وتشكل النساء ما يقرب من 68% من القوة العاملة في قطاع الورد.
تغطي “يطو” وجهها بعناية، وتواجه الشوك دون قفازات. تتحرك أصابع يديها بخفة بين صفوف الورد المترامية الأطراف بقرية آيت يحيا، فقيمة عملها تقدر بالكيلوغرام مما تجنيه، حيث تتقاضى العاملات 3 دراهم (أقل من نصف دولار) عن كل كيلوغرام مما يقطفن.
في حقول منخفضة ترحل بك في ثانية من مناخ صحراوي قاحل لرطوبة وجو الواحة العليل، لا تصدق أنك في الجنوب الشرقي، منظر ما تبقى من الورود كان كافيا ليعطينا صورة عامة عن وادي الورود، حين تزهر كل شتلاته في بساط وردي مترامي الأطراف.
شاركنا العاملات يومهن في القطف، وتابعنا كيف يتوسط أريج الورد الشوك والفقر، لينعش يومياتهن ببعض الدريهمات، ويؤنس باقي معيشهن طوال عام.
للورد تاريخ
يوضح المزارع محمد بوسوح، الذي تبدو على ملامحه الجدية والارتباط بالأرض، ويختزن الكثير من الذكريات والمعلومات المرتبطة بالواحة، قائلا: “في البدء كانت مشاتل الورد سياجا يفصل بين الملكيات، وبعدها بدأنا نزرعه على شكل صفوف منظمة”.
ويضيف أن زراعة الورد بوادي مكون ودادس تعود إلى عام 1720، حسب تقدير أجداده، ويقول إن الحجاج كان يهدون الورد الجاف للنساء، واستقدموا الزراعة للمنطقة، وانسجمت مع مناخها. ويسمى الورد العطري بالدمشقي، لتشابهه الكبير مع ورد دمشق وتركيا، في حين هناك روايات أخرى تقول بخصوصية مكونة في هذا النوع من الورد، وأن احتمال العكس وارد، أي أن الورد الدمشقي يمكن أن يكون قد استقدم من مكونة.
ويفيد بوسوح أنه في بداية القرن العشرين، بدأ التقطير بطرق تقليدية، وتم إنتاج الزيت والكونكريت (عجين الورد) وماء الورد.
ومع تطور الإنتاج أنشئ مصنع لتحويل الورد، وقبل حوالي 12 سنة كان المزارعون يبيعون كل المحصول للمصانع، وكان ثمن الورد زهيدا.
ومع ارتفاع الطلب على الورد من قبل مصنعي العطور والصناعات التجميلية، ارتفع ثمن الورد الطازج من 7 دراهم (أقل من دولار) إلى 25 درهما للكيلوغرام الواحد، وحرر القطاع أمام التعاونيات بعد اعتماد وزارة الزراعة للورد كسلسلة إنتاج متكاملة، وإعطائه صفة المنتوج المحلي.
سلسلة إنتاج الورد
يرى المزارع محمد بوسوح أن منتج الورد يتطور، وأمامه فرص واعدة، ويؤكد أن المُزارع اليوم يمكنه القيام بسلسلة الإنتاج كاملة، وبالتالي الاستفادة من المردود.
وبلغ إجمالي المحصول 3600 طن عام 2020 (معدل إنتاج يقدر بـ3200 طن في السنة من الورد الطري) على مساحة 900 هكتار، وفق أرقام فدرالية مهنيي الورود. وتضاعفت المساحات المعتمدة على السقي الموضعي 6 مرات.
ويحل المغرب في المرتبة الثالثة بين منتجي العالم من الورد العطري بعد بلغاريا وتركيا، ويبلغ معدل صادرات المغرب من الورد العطري 63 طنا.
وفي المغرب اليوم 3 وحدات صناعية تحويلية كبيرة تنضاف إلى 18 وحدة تقليدية، بما في ذلك 15 وحدة تقطير، وتقدر الكميات التي تم تحويلها بأكثر من ألف طن من الورد الطري، وتوفر السلسلة حوالي 400 ألف يوم عمل.
تقول الإدريسية آيت حدو رئيسية تعاونية نساء دادس إن نساء التعاونيات عملن على الرفع من قيمة الوردة عبر التحويل والتثمين والتسويق. وقطعت الإدريسية رفقة المنخرطات في التعاونية أشواطا مهمة من حيث التكوين وتعزيز العمل التعاوني والحس الاستثماري، وحصلت تعاونيتها على شهادة بيولوجية تسمح بتسويق المنتوج ذي الجودة العالية إلى خارج المغرب.
حلقة “الورد” المفقودة
تعتبر الإدريسية -التي أصبحت اسما مرجعيا في واحة دادس- أن الانتقال من الزراعة للتثمين مشوار ونضال طويل جدا، تمكنت خلاله النساء من محاصرة اللوبيات (الجهات) المستفيدة في السابق.
وقالت إن المرأة في مكونة ودادس المنخرطة في التعاونيات أصبحت اليوم تستفيد من التثمين والتطوير، وأصبح لها مورد رزق كريم، تحتفي به خلال مهرجان سنوي وتفخر بما أنجزت.
نساء لا يخرجن إلا في موسم الورد
وشكل مهرجان مكونة السنوي فترة احتفاء بمحصول الورد، (مهرجان سنوي وصل دورته الـ57 عام 2019، تقام فيه أنشطة متعددة منها اختيار ملكة جمال الورد)، غير أن وباء كورونا أفقد المنطقة واحدة من أهم مناسباتها.
تقول الإدريسية -بأسى ظاهر- إن السلسلة فقدت أحد أهم مكوناتها في غياب المهرجان، “فقدنا موسما أساسيا وعادة نحافظ عليها ترتبط بها أنشطتنا التجارية والثقافية”، وأوضحت أن المهرجان يشكل رافدا ثقافيا واقتصاديا، بحيث إن هناك نساء لا يخرجن من بيوتهن إلا في موسم الورد، ويعتبرنها عطلة مقدسة.
وعن حماية وردة مكونة، تلفت الإدريسية إلى ضرورة حفظ الواحة، وإعادة تأهيلها لربط سكانها بها، وتشير إلى أن المشاريع الجديدة والمساحات المضافة لزراعة الورد يجب أن تكون داخل الواحة للحفاظ على مؤهلاتها وحفظ خصوصية مصدر رزقها.
من جانبه، يؤكد محمد بوسوح أن مهارات زراعة وصيانة الورد مهارات متوارثة، يعمل جيل لنقلها إلى جيل آخر بفخر واعتزاز وارتباط بالورد الذي يعتبر شريان الحياة بمكونة.
المصدر : الجزيرة