تحفة القرّاء في رحلة ابن بطوطة الغرّاء (2)
فمن الأحداث الغريبة التي يرويها ابن بطوطة في تحفته، ما وقع له في مدينة "بَرْوَنَ"
خرج ابن بطوطة من مسقط رأسه طنجة، وهي المدينة الصغيرة ذات المجتمع الضيق، ومن ثقافة شيوخه الدينية والتراثية، إلى عالم أرحب، وبلدان مختلفة، ومجتمعات متعددة بتعدد ثقافاتها.
علاء البكري
فمن الأحداث الغريبة التي يرويها ابن بطوطة في تحفته، ما وقع له في مدينة “بَرْوَنَ” المسلمة الصغيرة “الواقعة في بلاد الكفار”، حيث تكثر السباع التي تفترس الأهالي ليلاً. وقيل إنها تشرب الدم ولا تأكل اللحم. ثم يتضح له أن الأمر لا يتعلق بسباع، وإنما بآدميين يتصورن في صورة سباع. وهم الآدميون المعروفون بـ”الجوكية”، ويطلق عليهم اليوم (في عصر ابن بطوطة): “سحرة اليوجي”.
يتعحب ابن بطوطة أول ما سمع هذه الحكاية، ثم يسترسل في سرد حكايات أخرى سمعها عنهم فيقول: “وهؤلاء الطائفة تظهر منهم العجائب. ومن عجائبهم، أن أحدهم كانت تحفر له حفرة، لا يترك له فيها إلا موضع دخول الهواء. فيبقى فيها شهورا بلا طعام ولا شراب، من دون أن يحصل له مكروه”.
ومن أعجب حكاياتهم التي شهدها ابن بطوطة وعاينها وهو في حضرة السلطان، أن رجلاً من هؤلاء الجوكية تربع على الأرض، ثم أخذ يرتفع حتى صار في الهواء. يقول ابن بطوطة: “فعجبت منه وأدركني الوهم فوقعت على الأرض. فأمر السلطان أن أسقى دواء عنده، فأفقت وقعدت، وهو لايزال على حاله متربعاً. فأخذ نعلا له من شكارة كانت معه فضرب بها الأرض كالمغتاظ، فصعدت إلى أن علت فوق عنق المتربع، وجعلت تضرب عنقه، وهو ينزل قليلا قليلا حتى جلس معنا”.
ويذكر رحالتنا لحظة دخوله مدينة الإسكندرية بمصر حكاية عجيبة من نوع آخر، تخص المكاشفات الخاصة بالإخبار عن سير رحلته وما سيلقاه خلالها، وهي حكاية الإمام الزاهد برهان الدين الأعرج. فيقول: “دخلت عليه يوما فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد. فقلت له: نعم، إني أحب ذلك. ولم يكن حينئذ بخاطري. فقال: لا بد لك إن شاء الله من زيارة أخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين بالسند، وأخي برهان الدين بالصين. فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام. فعجبت من قوله وألقى في روعي التوجه إلى تلك البلاد. ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم وأبلغتهم سلامه”.
وإثر بلوغه جزر ذيبة المهل، أو ما يسمى اليوم بجزر المالديف، يورد ابن بطوطة قصة عجيبة أخرى قُصت عليه من لدن بعض الثقات من أهلها، كالفقيه عيسى اليمني، والفقيه المعلم علي، والقاضي عبد الله وجماعة سواهم، أن أهل هذه الحزر كانوا كفارا، وكان يظهر لهم في كل شهر عفريت من الجن. وكانت عادتهم إذا رأوه، أخذوا جارية بكرا فزينوها وأدخلوها إلى بيت الأصنام، ويتركونها هناك ليلة، ثم يأتون في الصباح فيجدونها مفتضة ميتة. ولا يزالون في كل شهر يقترعون بينهم، فمن أصابته القرعة أعطى بنته. ثم إنه قدم عليهم مغربي يسمى أبو البركات البربري، وكان حافظا للقرآن الكريم، فنزل بدار عجوز منهم، فدخل عليها يوماً، وقد جمعت أهلها، وهن يبكين كأنهن في جنازة، فاستفهمهن عن شأنهن، فأخبروه أن العجوز كانت القرعة عليها، وليس لها إلا بنت واحدة يقتلها العفريت، فقال لها: أنا أتوجه عوضا عن بنتك بالليل، فأدخلوه إلى بدخانة وهو متوضئ، وأقام يتلو القرآن، ثم ظهر له العفريت من الطاق، فداوم التلاوة، فلما كان منه بحيث يسمع القراءة غاص في البحر. وأصبح المغربي وهو يتلو على حاله، فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها، فوجدوا المغربي حيا يتلو القرآن. الأمر الذي أثار إعجاب وتعجب الأمير شنورزاة الذي سيشرح الله صدره للإسلام بمعية قومه على يد هذا الشيخ المغربي وما يزال الإسلام هو دينهم الوحيد حتى يومنا هذا.
والشيء الذي يؤكد لنا حقيقة هذه القصة هو أن ضريح المغربي أبي البركات البربري لا يزال قائماً في قلب العاصمة المالديفية بمقربة من القصر الرئاسي.
وإلى اللقاء في غرائب جديدة من عجائب تحفة النظار.