ماما آسية الوديعةُ أمّ السجناء

- Advertisement -

علاء البكري

قاضية ومناضلة حقوقية، من زمرة النساء المغربيات اللائي تركن بصماتهن في المجال الحقوقي والجمعوي والتضامني. تبنّت وحملت قضية السجناء طيلة حياتها ومسارها المهني، وكانت قناعتها وهمها الوحيد هو التخفيف من معاناة كل من يقبع خلف القضبان، ومن ذلك الثقل الذي يسببه سلب حرية أي شخص. كان هدفها وشعارها دائما أنسنة السجون المغربية وفتحها على المجتمع ومصالحتها مع مختلف قطاعات وفعاليات الإنتاج، ورفعت تحدي الاهتمام بشريحة مقصية داخل المجتمع. وهذا ما توّجها بلقب “ماما آسية”، وهو هوية أكثر منه لقب لآسية الوديع، سيدة الوداعة والحب والعطاء.

صاحب الجلالة يستقبل اسية الوديع

نظام السجون في المغرب كان قويا وصلبا، إلى أن انخرطت آسية في العمل الإنساني

لقد تركت هذه المرأة القوية أثراً بليغاً على تطور وضعية السجون المغربية. وفي هذا الشأن تقول زميلتها في العمل المدني الدكتورة تيجانية فرتان: “نظام السجون في المغرب كان قويا وصلبا، إلى أن انخرطت آسية في العمل الإنساني، وكانت تعطي فيضا من المحبة لا حدود له، ووجدت ضالتها في السجون”.

في مدينة الخزف وحاضرة المحيط، آسفي، ولدت القاضية والمناضلة الحقوقية آسية الوديع، لأسرة كان بيتها ملتقى لمناضلي حزب الاتحاد الوطني ذي العقيدة الاشتراكية، وكانت هي البنت البكر للعائلة المناضلة. فالأب، محمد الوديع الآسفي، رجل خبر النضال وسجونه؛ والأم، ثريا السقاط، أديبة شبت على حب الأدب والنضال من أجل بزوغ مغرب كريم ديمقراطي. كما أن أخاها هو الشاعر والمناضل صلاح الوديع الذي لم ينج من لعنة النضال وسجونه.

ماما اسية

حلمت آسية الوديع بولوج عالم المحاماة للدفاع عن المظلومين، لكن ظروفها العائلية أجبرتها على الالتحاق بالقضاء عام 1971، لتتقلد منصب قاضية بالنيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بالبيضاء حتى العام 1980م. تكلفت وقتئذ بالأحداث وبملفات إهمال الأسرة التي تعنى بتنفيذ الأحكام الصادرة عن محاكم الأحوال الشخصية، من قبيل أحكام النفقة والرجوع إلى بيت الزوجية وحضانة الأبناء.

ثم استقالت من القضاء لتلحق بهيئة المحامين بمدينة السطات ما بين العامين 1981م و 1984م، ثم بهيئة الدار البيضاء من العام 1984م إلى غاية العام 2000م، وهو العام نفسه الذي ستترك فيه ماما آسية مضمار الترافع بصفة نهائية لتصبح موظفة بإدارة السجون التي اهتمت في إطارها بمراكز الإصلاح ودُور إعادة تربية الشباب القاصرين.

لقب لآسية الوديع، سيدة الوداعة والحب والعطاء.

وبعد تجربة ليست بالقصيرة في مجال القضاء والمحاماة حصلت لدى آسية قناعة بأن مهمة الدفاع عن المظلومين لا تقتصر على مهنة المحاماة فقط، بل هناك طرق وسبل أخرى تمكنها من الترافع عنهم وعن قضاياهم. وفي خريف العام 2000 التحقت بالمديرية العامة لإدارة السجون حيث ستتكلف بالإشراف على مركز التهذيب بالبيضاء الذي يعنى باستقبال الأطفال الجانحين. وهناك بدأت مسيرة ميدانية ونضالية جديدة وقفت فيها عن كثب على الواقع السجني بالمغرب، وشمرت عن ساعدها لتحسين أوضاع السجناء وتوفير حياة كريمة لهم داخل السجن وخارجه، الشيئ الدي الذي أدى إلى نشوء علاقة إنسانية غير عادية بينها وبين نزلاء المركز الذين سرعان ما أحسوا وأدركوا تطلعاتها تجاههم وانشغالها بأوضاعهم. وأمام ضعف الإمكانيات وقلتها فكرت بالاستعانة بمعارفها وبكل من يستطيع سد النقص الذي يعاني منه المركز ومد يد العون لهذه الفئة من القاصرين الجانحين الذين وجدوا أنفسهم ضحايا للانحراف، إدراكا منها بأن مسألة إصلاحهم وهم في هذا السن أمر ممكن، ومن هنا جاءت فكرة إنشاء جمعية خاصة تعنى بأوضاعهم، إلى أن جاءت الزيارة الملكية داعمة ومساندة لهذا التوجه ومباركة له، بإحداث مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء. فعملت في هذا الإطار على أنسنة ظروف السجن عبر دعم برامج إعادة إدماج السجناء، ومساعدتهم على التوبة والرجوع إلى المجتمع كمواطنين صالحين في مجتمعهم ومتصالحين مع أنفسهم.

وبعد مسيرة حافلة بالنضال الحقوقي والجمعوي والتضامني، انتقلت ماما آسية إلى عفو الله يوم الجمعة 2 نونبر 2012

شغلت آسية الوديع العديد من المناصب الجمعوية والحقوقية التي تعنى بحقوق الإنسان وتوفير حياة كريمة لأي شخص كيفما كان، حيث شغلت منصب عضوة مؤسسة وكاتبة عامة للمرصد المغربي للسجون. كما كانت عضوة نشيطة في العديد من منظمات المجتمع المدني: عضوة بمؤسسة محمد السادس لإدماج السجناء، وعضوة مؤسسة للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان سنة 1988، وعضوة بجمعية الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف.

وبعد مسيرة حافلة بالنضال الحقوقي والجمعوي والتضامني، انتقلت ماما آسية إلى عفو الله يوم الجمعة 2 نونبر 2012، عن عمر يناهز 63 عاما بعد صراع طويل مع المرض، وانطلق موكب جنازتها من بيت أبيها المناضل الوديع الآسفي. آسية الوديع رحلت عن دنيا البقاء، لكن ماما آسية تحيى في ذاكرة كل من اشتغلوا إلى جانبها أو صادفوا مرورها بحياتهم، أو ساعدتهم على العودة إلى الحياة.