حاورتها فوزية طالوت المكناسي
سيدتي السفيرة أهلا بك ضيفة على مجلة فرح،
أعلم أن لديك مسيرة مهنية طويلة كدبلوماسية. هل اخترت العمل الدبلوماسي أم أن مهنة الدبلوماسية هي التي اختارتك؟
يشرفني جدًا أن أكون ضيفًة لمجلة فرح، وأود أولاً وقبل كل شيء، أن أهنئكم على جودة المواضيع التي تتناولها مجلتكم. كما أود أن أحيي من خلالكم جميع القراء، مع أجمل متمنياتي.
أما بالنسبة لمسيرتي المهنية كدبلوماسية، فهي بالفعل طويلة، ولكنها أيضًا مثيرة للغاية، على مختلف الأصعدة. إنه لمن حسن الصدف أن أجد نفسي في مجال الدبلوماسية. فعندما كنت صغيرًة، كنت أحلم بأن أصبح محاميًة، لكن والدي رحمة الله عليه، بحسن نية ووفقًا لعادات وتقاليد ذلك الوقت، أقنعني باختيار مهنة أخرى لأنه، حسب قوله،” المحاكم ليست مكانا يرتاده للنساء “! الحمد لله، لقد تطورت الأمور اليوم بشكل كبير في بلدنا، ويسعدني، بالمناسبة، أن أرى عددا هائلا من الكفاءات النسائية، من قاضيات ومحاميات وغيرهن من موظفات ومساعدات في مجال العدالة، اللواتي يمارسن مهامهن اليوم في المحاكم.
وهكذا، بمجرد حصولي على الإجازة في القانون بجامعة محمد الخامس بالرباط، وبعد استكمال عامين من الخدمة المدنية التي كانت الزامية في ذلك الوقت، بوزارة التربية الوطنية، قمت باجتياز مباراة للوظيفة العمومية، والتحقت بعد النجاح فيها بوزارة التعاون الدولي التي تم دمجها سنة 1985 بوزارة الخارجية.
ومن هي سورية المرأة والانسانة؟
كوني امرأة ودبلوماسية يصعب الفصل بينهما! لا أستطيع تغيير أسلوبي أو شخصيتي عندما أقوم بمهامي كدبلوماسية. وبكل تواضع، أعتبر نفسي إنسانة بسيطة وهادئة وسعيدة، وأستمتع بحياتي العادية، من خلال ممارسة الرياضة والسفر وقراءة الكتب أو مشاهدة الأفلام، كما أفضل قضاء المزيد من الوقت مع أفراد عائلتي. أما في مجال العمل، فشعاري هو الصرامة والحرص على الإتقان، لأنني أحب القيام بالعمل وفقًا لقواعده وعلى أكمل وجه. وعندما لا يكون ذاك هو الحال، فقد يحدث لي أحيانا، مثل أي شخص آخر، أن أغضب أو أرفع صوتي، لكن بكل تأكيد، أتملك نفسي وأتراجع بسرعة بعد ذلك.
أخبرينا عن المناصب الرئيسية التي شغلتها خلال كل هذه السنوات ؟
إن كونك إطارا في أي وزارة للشؤون الخارجية هو بالتأكيد فرصة فريدة، تساهم في تكوين وصقل شخصيتك وموهبتك، وتوسيع آفاقك، ومنحك فرصة للتعرف على العالم واكتساب خبرات وتجارب مهنية وإنسانية غير عادية.
بدأت مساري المهني بمديرية العلاقات المتعددة الأطراف والمنظمات الإقليمية والدولية، حيث أتيحت لي الفرصة للمشاركة في العديد من المؤتمرات والأنشطة الدولية، بمقر منظمة الأمم المتحدة، سواء في نيويورك أو في فيينا. وقد اشتغلت بسفارة المملكة بالعاصمة النمساوية من 1995 الى 1998، قبل الالتحاق بالسفارة بستوكهولم بالسويد سنة 2001. ثم توليت بعد ذلك منصب رئيسة قسم المراسم بمديرية التشريفات بالوزارة بالرباط إلى غاية سنة 2004، وهو نفس التاريخ الذي عينت فيه في منصب قنصل عام للمملكة بمونتريال بكندا إلى غاية 2011.
وفي نفس السنة، حظيت بالتعيين كسفيرة لصاحب الجلالة، نصره الله، لدى جمهورية التشيك، التي مكثت فيها إلى سنة 2018. ثم حظيت مرة أخرى بالثقة المولوية بتعييني سفيرة لجلالته بكندا سنة 2018، وهو البلد الذي أعرفه جيدًا وما زلت أشتغل فيه حتى اليوم.
من بين كل هذه الوظائف، أيتها هي الأقرب إلى قلبك؟
عندما تمارس مهنة الدبلوماسي، يجب أن تكون نموذجًا في كل ما تفعله، لأنك تمثل ملكك وبلدك، فأنت محل ثقة عالية جدًا وتتحمل مسؤوليات جسيمة. لذا، بصرف النظر عن المكان أو المحيط أو العاصمة أو البلد الذي تم تعيينك فيه، يجب أن تسعى، بشكل يومي وبأفضل وجه ممكن، لتكون أهلا للثقة الموضوعة فيك والقيام بمهامك بكل تفان وإخلاص، وتمثيل بلدك المغرب أحسن تمثيل.
إجابة على سؤالك، يصعب علي حقًا التمييز بين الأدوار والوظائف المتعددة التي قمت بها. بالتأكيد هناك دول ومحاورون أكثر متعة من غيرهم، وهناك أوقات ومواقف يمكن أن تكون صعبة ومعقدة، لكن هذا لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يكون عذرًا أو عقبة أمام أداء واجبك المهني. أنا بطبيعتي متفائلة وأحاول دائمًا أخذ الأمور في جانبها الإيجابي. وهذا يدفعني باستمرار للقيام بمهامي، مهما كانت طبيعتها وصعوبتها، بكل إخلاص وبكامل قدراتي. لذا أعتبر أني قمت بأريحية بكل مهامي وحاولت أن أستثمرها جميعًا لما فيه فائدة وخير بلدي.
ما هي السمة الرئيسية للنجاح في مهنة الدبلوماسية؟
التواضع، والكرامة، والانفتاح، والاستماع، ومهارات التواصل، والقدرة على بناء العلاقات، والمعرفة الجيدة ببيئة العمل، والجاهزية، والاستعداد للتعلم، والقدرة على المجاملة واللطافة، وعلى ضبط النفس في مواقف معينة، والتوفر على قدرات جيدة في التحليل والصياغة، هي من بين الصفات الأساسية التي يجب أن تتوفر في الشخص حتى يكون دبلوماسيًا ناجحا.
أنت كذلك مدافعة عن حقوق الإنسان والمرأة على وجه الخصوص، بحكم خبرتك، كيف تقيمين وضع حقوق المرأة في المغرب؟
إذا قارنا الوضع الذي كانت تعيش فيه أمهاتنا وجداتنا في العقود القليلة الماضية، يمكننا أن ندرك بالفعل التقدم الكبير الذي أحرزته بلادنا منذ الاستقلال، في مجال التعليم والتنمية الاجتماعية والاقتصادية للمرأة.
ومن حقتا أن نفتخر، لأن جلالة الملك، نصره الله وأيده، يدافع ويسهر شخصيا، على تحسين وضعية المرأة المغربية، ولأن جلالته يؤمن بمواهب وقدرات النساء ويسند لهن مناصب القرار رفيعة المستوى. نحن فخورون بوجود نساء عالمات ومرشدات، ونساء يشغلن منصب العمال والولاة …كما نفتخر بتواجد نساء مغربيات في مراكز القرار في مختلف القطاعات الاقتصادية، وفي الحياة السياسية، وفي الحكومة، وفي البرلمان، وفي المجالس المنتخبة.
لقد بُذلت جهود كبيرة وما زالت تُبذل لتحسين وتعزيز حقوق المرأة. فقد تم اعتماد قوانين واستراتيجيات وبرامج وخطط أساسية في هذ المضمار. أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، دستور سنة 2011 الذي كرس المساواة بين الرجل والمرأة، ومدونة الأسرة، وتعديل القانون التجاري الذي ألغى شرط إذن الزوج للمرأة لممارسة أنشطة تجارية، وقانون الجنسية الذي سمح للمرأة بنقل جنسيتها إلى طفلها المولود من أب أجنبي … كما أذكر أيضًا جميع الجهود التي تبذلها الحكومة والمجتمع المدني على حد سواء لمحاربة جميع أشكال العنف ضد المرأة … وبما أنك تجرين مقابلة مع دبلوماسية، فمن الضروري أيضًا الإشادة بالمكانة المهمة التي تحتلها المرأة المغربية في المجال الدبلوماسي. فهناك حاليًا أكثر من عشرين سفيرة لصاحب الجلالة الملك اللواتي يمارسن مهامهن في العديد من العواصم الأجنبية الهامة … تخيلي أن هذا لم يكن من الممكن تصوره قبل عشرين عامًا… بالطبع، أنا لا أقول إن كل شيء على ما يرام، لأنه لا يزال هناك طريق طويل أمامنا، وتحديات وعقبات يجب التغلب عليها، لكن يجب أن نهنئ أنفسنا على التقدم الذي أحرزناه ونواصل مسيرتنا إلى الأمام لتحسين الأمور.
لدى المغرب ترسانة قانونية مهمة في مجال حقوق المرأة، لكننا ما زلنا نواجه العديد من المواقف في تناقض صارخ مع هذه النصوص نفسها، في رأيك إلى ما يمكن أن نعزو هذا الوضع غير المنطقي؟
نعم، ربما تكونين محقة، فأنا لست خبيرة في حقوق المرأة ولا أدعي أنني أعرف عن ظهر قلب أحكام وتأويلات النصوص القانونية التي تعنى بحقوق المرأة المغربية، لكنني أدرك أنه قد تكون هناك تناقضات بين بعض النصوص القانونية. وهذا عادي جدا، لأن المجتمعات والعقليات تتطور بشكل أسرع من النصوص القانونية. لسوء الحظ، هناك أيضًا بعض المقاومة في وجه التغيير والتطور … نحن مجتمع محافظ في كثير من الجوانب، ولا تزال ردود الفعل الأبوية سائدة. إنه فعلا عمل شاق وطويل، ولابد من الاستثمار في تعليم الأجيال الصاعدة، ومحاربة التعصب، وتحطيم الحواجز، والتحلي بالمثابرة والإقناع …
وإذا قارنا وضع المرأة في المغرب مع الوضع في كندا، فماذا يمكننا أن نستخلص؟ وهل تعتقدون أن القوانين الخاصة بحقوق المرأة هي عالمية، أم أن كل دولة يجب أن تحافظ على خصوصياتها؟
علمنا تاريخ البشرية أن في جميع دول العالم، المتقدمة والنامية، الغنية والفقيرة، توجد حالات التمييز ضد المرأة في الماضي وفي الحاضر … إذا كان يُنظر لبعض البلدان، مثل كندا، على أنها متقدمة جدًا في مجال حقوق المرأة، فأن الحقيقة ليست دائما كذلك … فقد كشف، مثلا، تقرير صادر في السنة الماضية عن معهد الإحصاء في كبيك، أن أجور النساء في كندا أقل بكثير من نظرائهن من الرجال، رغم قضائهن سنوات من التعليم الجامعي ووجود العديد من التشريعات المتعلقة بالمساواة في الأجور. يضاف إلى ذلك أن النساء ممثلات بشكل ضعيف جدا في الإدارة وفي مجالس إدارة كبريات الشركات الكندية. وعلى الرغم من تزايد عدد النساء في المؤسسة البرلمانية، إلا أنهن لم يصلن بعد إلى تحقيق التكافؤ والمساواة التي طال انتظارهما …
كما لا يزال العنف ضد المرأة مشكلة يصعب القضاء عليها على الرغم من الترسانة القانونية الملزمة وحملات التوعية المستمرة … ومن المستغرب أحيانًا ملاحظة بعض أوجه التشابه في معالجة حقوق المرأة، ولكن بدرجات متفاوتة بغض النظر عن البلد الذي تعيش فيه. …
إن اعتماد الأمم المتحدة سنة 1979 لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وسعي مختلف منظمات الأمم المتحدة ومؤتمراتها إلى تعزيز حقوق المرأة، والترسانات القانونية المعتمدة على المستوى الوطني، يبرهن بالفعل على تطلعات الإنسانية وتعلقها بمفهوم شامل لحقوق الإنسان، ويثبت أن المرأة يجب أن تتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها الرجل وبالمساواة بين الجنسين ….
لقد زرت العديد من البلدان والتقيت بالعديد من الأشخاص، أخبرنا عن الأشخاص الذين أثروا فيك والأماكن التي كان لها وقع عن حياتك؟
من خلال مسيرتنا المهنية في المجال الدبلوماسي، تتاح لنا فرصة اللقاء، أو تحية، أو مساعدة، أو مرافقة عدد من الشخصيات السياسية الرفيعة المستوى، سواء المغربية منها أو الأجنبية. فمثلا، أثناء أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تنعقد كل سنة بنيويورك، يمكن لك أن تصادف عددا من الشخصيات السياسية المرموقة في أروقة هذه المنظمة، وهو أمر مثير حقًا. وفي الحقيقة، فإن أروقة الأمم المتحدة في نيويورك أوفي فيينا أو في جنيف، هي من الأماكن المؤثرة، لأنها مدارس حقيقية تساهم في تكوين الدبلوماسي. وقد كنت محظوظة لأني اشتغلت في هذه الأماكن.
أما بالنسبة إلى الشخصيات، فقد أثرت في تلك التي قابلتها بتواضعها وفصاحتها. مثلا، رافقت، خلال مؤتمر دولي في مراكش، رئيس الاتحاد السويسري الراحل Jean-Pascal Delamuraz ثم رئيسة باكستان الراحلة Benazir Bhutto.
في فيينا، أتيحت لي فرصة لقاء الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والتحدث إليه مطولاً. في براغ، أتيحت لي الفرصة لتحية Dalaï-lama وكذلك Charles Aznavour خلال إحدى حفلاته الموسيقية الأخيرة قبل وفاته … لكن أعظم امتياز وأعظم شرف وأكبر تتويج لمسيرة مهنية كاملة، كان بالنسبة لي حين كنت في براغ، خلال الزيارة التاريخية التي قام بها صاحب الجلالة، نصره الله وأيده، سنة 2016 إلى جمهورية التشيك، بدعوة من الرئيس التشيكي … وهذا حدث تاريخي كبير لن ينسى إلى الأبد …
بصرف النظر عن مهاراتك الدبلوماسية، ما هي المهارات الاخرى لديك؟ بمعنى آخر ماذا تحبين أن تفعلي بعد مغادرة السفارة؟
أحب المشي كثيرًا، لا سيما بمحاذاة منابع المياه في الصيف … كما أنني أحب السير في الغابات خلال الخريف الكندي والاستمتاع بألوان الأشجار الجميلة… أحب القراءة، وزيارة المتاحف، وحضور عروض الفنانين والكوميديين، كما أحب قضاء الوقت مع أصدقائي وكذلك مع ابنتي وزوجي الذي يساعدني بشكل كبير في أداء مهامي الرسمية. وبسبب العزل الذي فرضته جائحة كورونا، لم أتردد في دخول المطبخ لتجربة وصفات جديدة موجودة على انستغرام!
ما الشيئ الذي كنت تودين القيام به، لكنك لم تتمكني من القيام به، أو لم يتسنى لك الوقت للقيام به بعد؟
أنا حقًا أحب القراءة، ولقد قمت بجمع عدد من الكتب لسنوات عديدة لم يكن لدي وقت فراغ لقراءتها حتى الآن. أود أيضًا أن أساهم واستثمر، إذا أتيحت الفرصة، في تكوين أجيال جديدة من الدبلوماسيين المغاربة، وتقاسم تجربتي المهنية معهم، كما أود أن أمنح بعضا من وقتي للتطوع في إطار الجمعيات الخيرية في بلدي، والانخراط في الجمعيات النسائية، والمساعدة على تعلم أطفال المدارس… هناك الكثير مما يمكن أن نقوم به… وفقنا الله لذلك وأمدنا بالصحة والعمر المديد حتى نحقق ما نصبو إليه!
الكلمة الأخيرة لك سيدتي السفيرة
شكراً مرة أخرى للمشرفين على “مجلة فرح” لإعطائي الفرصة للمشاركة في أحد أعمدتها ومخاطبة قرائها وتقاسم تجربتي ومساري معهم كدبلوماسية مغربية. كما يسعدني أن تأتي هذه المقابلة في سياق الاحتفال هذه السنة بالذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وكندا، وهي علاقات متينة مبنية على الود والصداقة القوية والاحترام المتبادل والتعاون متعدد الأبعاد في مختلف القطاعات، نسعى باستمرار للارتقاء بها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية ذات المنفعة المتبادلة.
كما يسعدني كذلك أن أتقاسم مع القراء بعض الأفكار حول المواضيع المتعلقة بحقوق المرأة في المغرب، متمنية أن تكون هذه المشاركة المتواضعة ملهمة للأجيال الصاعدة من النساء المغربيات لاختيار مهنة الدبلوماسية.
كما أود أن أحيي وأشيد بالحيوية والعمل الجبار الذي تقوم به كل النساء المغربيات، كل يوم، وخاصة الحرفيات منهن، اللواتي يتحلين بالصبر والإبداع في عملهن.
وسأظل مقتنعة بأن المرأة المغربية تتمتع بكافة القدرات وتتوفر على أعلى الكفاءات والمواهب التي تكفل لها المساهمة بفعالية، إلى جانب الرجل، في رفاهية أسرتها وفي تقدم بلدها ووطنها.
شكرا السيدة السفيرة