“المْعلمة” و”المْتْعَلْمة”… من الألم نحو الأمل

- Advertisement -

غالبا ما نسمع مقولة ” لا يجب الحكم على أي إبداع فني، أو تقييمه، أو تصنيفه، بناء على طبيعةِ أو شخصية مبدعه”، بمعنى أنّ نظرتنا إلى أي عمل فني – وأعني هنا العمل الفني اليدوي تحديداً- تظل مرتبطة مباشرة بانعكاساته علينا بصريا، وكذا حسياً، ومن خلال ذلك نستخلص انطباعات وتصورات عن تفاصيل العمل وتقنياته والوانه، وغير ذلك. ومن ثم نقوم بتقييمه دون الخوض في من ابدعه، أو الحكم على جنسه، أو انتمائه، أو معتقده …

لكن، وإلى عهد قريب جدا، كنت أؤمن بهذه المقولة، وانه يجب ان نرى كل إبداع بحيادية وتجرد، إلى حين قادتني الاقدار إلى مدرسة الصنائع والفنون بتطوان في إطار البحث الأكاديمي الذي أنجزه بمعهد الفنون الجميلة حول موضوع “الخيط” كأداة عمل وإبداع و مهارة “.

“المعلمة ديالي” مبدعة، تصنع قطعا فنية تعكس حسها الفني والانسانى وشغفها الكبير بتقاسم أدق تفاصيل مهاراتها مع متعلماتها، دون تكتم او احتكار، لان حبها لما تصنعه يجعلها تنتشي وهي تتقاسم مهاراتها وابداعاتها.

وانا اتأمل باعجاب طريقة تلقينها لتلك المهارات عجزت أن أكون “محايدة”. لم أكن أرى صنائعها بمعزل عن كينونتها. كنت أرى أعمالها من خلالها، حتى صار إبداعها هي، وصارت معه هي عنوانا لكل ابداع.

المْعلمة المْتْعَلْمة

 

 

حصص التعلم بالقرب من ” المْعلمة ديالي” وملامسة جزئيات وتفاصيل كل حرفة يدوية معها رفقة كوكبة من المتعلمات، جعلتني احس وكأنني حظيت بالانضمام إلى جلسة علاج جماعي: تارة عبر عصف ذهني، وتارة عبر شحنات شجن، وتارات أخرى عبر التحفيز والتحدي والانتصار للذات .

كل الحاضرات، “المتعلمات”، يحكين باسترسال عن تجاربهن اليومية ويتبادلن الذكريات والأحزان والطموح والانتظارات …

كل اعتراف يتم تقاسمه والكل منهمك في تعلمه… نتحدث جميعا وحركات اليد والخيط والابرة والمقص لا تتوقف … كل “قفل” من إبرة يخيط ويطرز وينسج ويحيك، بكل عناية وإصرار على التعلم والإبداع والمواصلة.
وتتواصل الحكايات ويتوالى السرد كما لو كانت قصصهن تحيك مع كل خيط وبشكل لا مرئي ولا منطوق كل ما نحته الألم والأمل معا في قلوبهن وذاكراتهن.

المْعلمة المْتْعَلْمة

الآن، لم أعد اتفق مع المقولة اياها، أي لا تحكم على عمل إبداعي بمنأى عن مبدعه. فكيف لي أن أرى قطعة تطريز صنعتها هذه الأنامل وأنا أراها تأتي كل يوم للمشغل، مهرولة، تتصبب عرقا احيانا، وتذرف الدمع أحيانا أخرى، ثم تاخذ إبرها وخيوطها وتحكي بحرارة عن المعارك اليومية التي تخوضها مكرهة بالمنزل واحيانا مع نفسها. تجلس في مقعدها وتنهمك في التطريز وكأنها تسكب جرعات المرارة على رقعتها. تطرز وتحكي وتطرز حتى تنفذ خيوطها، ثم ترحل مبتسمة وفي جعبتها ضحكات للمجموعة شحنات إيجابية وبضعة خيوط متلاشية لتعود في اليوم الموالي مع قصة جديدة وألوان طيف مختلفة….

ثم تأتي ” العروس” وهي فارة من إكراهات مسؤوليات” الحياة الزوجية” المحطة الرمادية بالنسبة لها وتصارع ضغوطاتها المفاجئة وتحتمي بالخيط الرمادي عند اشتغالها ظنا منها أنها تختزل يومياتها في لون تطريزها، تستقبلها المتعلمات بالزغاريد وهي خجولة تحاول ان تخفي خيبتها وإحباطاتها خلف خرم الإبرة وخيطها الرمادي ثم تندمج في المجموعة علها تجد وسيلة ترمم بها كسور نفسها وتخيط قنطرة تصالح بين حاضرها وماضيها وتطلعاتها.

المْعلمة المْتْعَلْمة

وألتفت نحو التلميذة الصغيرة سنا والشامخة كياناً. لقد ساقتها الظروف نحو دار المعلمة وفضلت الحرف على الحروف بحثا عن صيغة تطرز بها بؤسها وعن مهارة تخرجها من دائرة الانكسار بعد مغادرة المدرسة بلا عودة، وبعد خذلان الأسرة لعدم نفعيتها نحو محطة للإبداع والابتكار والتفوق والثقة بالنفس ….
هؤلاء المبدعات ” المعلمة”، و”الأم”، و”العروس”، و” المْتْعلمة”، لا يصنعن قطعا فنية إبداعية تتطلب تركيزا وصبرا وشغفا فحسب، بل كل واحدة منهن تضع قطعة من نفسها في ذلك العمل .

وأراهن الآن أنه لو كانت تطريزاتهن تتحدث لخط خيطها عبارات تقول “إن الإبداع الذي صنعته هذه الأيادي هو نفسه الذي خلف بها هذه الندب الكامنة.”

إنها بعض من ترددات خيوط الإبداع بدار “الصّْنْعة” في تطوان.