العقلانية والمجادلة ليستا أنثويتين
لم تكن شهرزاد مجرد راوية، او لنقل مجرد حكائيه، فلقد جادلت في مواضيع فكرية لطالما ظلت أو لا تزال تعتبر شأنا رجاليا أو لنقل ذكوريا، ذلك أن العقلانية والمجادلة ليستا أنثويتين، وكم مرات آمنت بهذه الحقيقة، فهي لا تجد مكانا لائقا للمرأة بين فلاسفة كل القرون عبر التاريخ الفكري للبشرية، بالتأكيد لا تعرف السبب، سبب إسقاط العقل الأنثوي من تاريخ الفكر الإنساني العقلاني الفلسفي. لما أسقطهن القلم الذكوري؟ لأنهن كن متواجدات على قلتهن، كن مفكرات ومجادلات، بل كن معلمات للكثير من التعقل الفلسفي والتماهي الروحي الصوفي في إرهاصاته الأولى في أثينا وفي الإسكندرية والكرنك وفي خراسان وغرناطة، بل وفي البصرة أيضا.
هي أيضا مسالمة ليس لأنها لا تملك شجاعة الفروسية، بل هي في المعارك تحارب بحزم وغضب مدافعة عن كرامتها وعدالة قضيتها، لأنها بكل بساطة لم ولن تعلن الحرب بدءا، فإعلان الحروب شأنا رجاليا، هي فقط إما محاربة حد الموت أو ضحية من الضحايا العزّل مثل الأطفال، تملك الأنثى براءة الطفولة. يعلنون الحرب ويجردونها من السلاح، يناقشون ترتيبات الحرب والعمليات العسكرية وهي غائبة، أو مغيبة، لا تستفيق حضورا إلا على وقع القصف. هي لا تملك ترف رفض الحصار، إنها محتلة بشكل مزدوج، في السلم محاصرة بممنوعات القبيلة الذكورية، وفي الحرب محاصرة بذكورية وهمجية المعتدي المحتل.
نحن هنا لا نكبر، يأتي العدو، يصيبنا برصاصة مصوبة أو طائشة ونموت صغارا
تكابد وتشقى وراء لقمة العيش مرة بالعمل المضني ومرة استجداء عطف وكرم سي السيد. لكن رغم التعب والدمار والخوف، عليها أن تظل زوجة ولودا. لا مكان لتحديد النسل في زمن الحرب والاحتلال، الذكور قرروا أن يعوض كل الموتى من الأطفال بمشاريع شهداء جدد. من أين سيأتون، ومن أين سيخرجون إن هي منعت رحمها عن المساهمة في المعركة. سألت مرة شهرزاد طفلا غضا حينما كانت تحاول إيجاد موطئ قدم لحلمها بأن تكون صحافية، سألته عن حلمه حين يكبر، أجاب:” “نحن هنا لا نكبر، يأتي العدو، يصيبنا برصاصة مصوبة أو طائشة ونموت صغارا، أجل نموت صغارا، يصبح إذن سقف حلمنا أن نصير طيورا في الجنة”. علقت شهرزاد بصمت رهيب!
في كل التاريخ البشري، تواتر الناس مساهمة الأنثى في السلم أكثر من إذكائها للحرب أو الدعوة لها، لم تتحرر العديد من المناطق سوى عندما شاركت المرأة في عمليات السلم والسلام. لا تستشار النساء في البدء بالحرب ولا حتى في البدء بالتفاوض، وهن آخر منقذ لتعثر تطبيق اتفاقات السلام. شهرزاد، إذن، كغيرها من النساء تحسن أن تبدي بسالة في معركة الحياة، وفي معركة من أجل السلم والحياة والبناء، قد تمنح الحياة، تغذيها تبنيها تترعرع على يديها. كيف لمن يمنح الحياة أن يخطط لسلبها؟؟
شهرزاد صادقت الروح وانصهرت مع “إمتاع التوحيدي” و”آنسته”
في البدء كانت الأنثى، معها عانق آدم مغامرة المعرفة والبحث، لا يمكن أن تتحقق المعرفة والاستكشاف بدون المغامرة، هي مسكونة بالمعرفة والتجريب، فلا يمكن لشهرزاد إلا أن تمنح ألق التجريد والتأمل. شهرزاد صادقت الروح وانصهرت مع “إمتاع التوحيدي” و”آنسته”، ولكن أيضا تطهرت “بغفران” المعري من خلال الغوص بعيدا في رسالته، لم ترد أن تتنكر “للزومياته” أيضا وهو يسكب عليها ماء منقوعا بتمائم غفرانه، ولا أن تبتعد عن ابن عربي الذي أراد لها أن تكون حاضرة وهو الذي يؤمن بأن المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه. شهرزاد كانت في جبة الحلاج وهي تسمعه يجيب سائلا له: “ما في الجبة يا حلاج”؟ كانت هناك تشد من عضده حين اشتد المتربصون به يرجون القصاص منه. فهي طبعا مانحة الحياة لكن الموت بحد سيف السياسة كان أسرع وأقوى. هي، أيضا، مثله لم يعد ل هناك ما يخيفها، فحين يهجم الهذيان عليها، تصبح كل السماوات مشرعة على الاحتمالات والأحلام الغضة، تصبح النوافذ مفتوحة على حقول الياسمين والقرنفل تأخذها الروائح العطرة لمسافات حد السماء.
كيف إذن لمحمود درويش أن يخونها ويعلن أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟
ها هي مرة أخرى تجنح روحها للهذيان، وحين يستعصي الواقع على التحمل تختفي وراء هذيان وشطحات ترفعها عاليا لترى بعين ثاقبة واقعها وواقع مجتمعها وتعيد نفس السؤال الأرسلاني مشفوعا بتصرف منها: لماذا تأخرتُ وتقدم غيري؟ “تبّا الهذيان الذي لا ينقطع!” تردد بصوت خافت، أجل ربما هو أكبر من الهذيان، إنه الألم، والحسرة مما تعيشه، منذ زمن أو لنقل منذ هلّ عليها هذا الزمان التافه والمسفّه إلى أبعد الحدود، تزداد الآلام حين لا تجد من يخفف عنها قليلا وعلى كل من يعيش عذابات لا متناهية على هذه الأرض. كيف إذن لمحمود درويش أن يخونها ويعلن أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟ كيف بالله عليك يا درويش، هي لا تريد سوى أن تقبض على ما تبقى لها من سلامة عقلها، والتشبث بما احتفظت به من إنسانيتها لتحميها من الاندثار بداخلها بعد أن عز عليها أن تزرعها في تربة الآخرين.
الآخرين؟ من هم؟ أين هم؟ هل تسأل شهرزاد عن هوياتهم؟ أليست الهوية مجرد وهم فهي غير قارة ودائمة الانفلات فلا يمكن الوثوق بها حين تصبح متعددة وقاتلة، أجل، هي قاتلة، حين نصبح مغردين مع معلوف بأن لا فرق بين الهوية والكرامة، غير أن شهرزاد مثل أمين تخشى من اختلال العالم أمام تفاؤلهما المفرط. ألم يصرح إدوارد سعيد بأن اختلال العالم هو ما بدأ مع عنف الاستشراق، متجاهلا سماحة الألمانية زغريد، وإنصاف الروسي فاسيلي. ربما علينا يا شهرزاد أن نتجاهل بعض الحقائق لكيلا نقع في فخ الحياة، وكما قال دوستويفسكي، عليكِ التجاهل لكي تستمري. فعالم اليوم مليء بالعنف، إنه بحق قرن الحروب والمجازر تماما كما توقع لينين. إنه العنف يجعل شهرزاد تشك في أن هناك مستقبلا سيأتي، ألم تشك قبلها حنة أرندت بذلك، عندما قاربت كمية العنف الذي ينتجه البشر أكثر من السلم. ألم تأتي حرب باردة بعد التدمير الكبير للحرب العالمية الثانية؟ وهي رغم برودتها إلا أنها كانت أعنف وأشد فتكا. لهذا صرخت فيرجينيا ضد الحرب يا شهرزاد، وانسحبت للنهر بغير رجعة وهي تحمل في جيوب معطفها كمية وافرة من الحجارة. حجارة جنبتها العودة لحياة قاست منها مرارة التمييز وحزن النفس الأنثوية في عالم الذكور المتسلط.
فهل فعلا رحلت شهرزاد الى الغرب كما أعلنت مرة فاطمة نفسها شهرزاد الغرب
لكن شهرزاد تتذكر السيدة وولف بكثير من الفخر والارتياح فهي أفضل منها بفضل الحب الذي كانت تحاط به، لم تكن مثل مَي زيادة التي كان تسلط المجتمع وجحوده إزاءها أكبر وأعمق، هي عانت من ظلم القربى وهو أشد مضاضة كما أعلن طرفة منذ زمان ليس بالقريب أبدا، ولكنه يظل محيّنا. ماري او مي هي إذن صورة وظل شهرزاد في الشرق، تعطي وتمنح وتزرع، ولكنها لا تحصد سوى الجفاء. فهل فعلا رحلت شهرزاد الى الغرب كما أعلنت مرة فاطمة[1]؟ كيف يمكن أن نجعل من شهرزاد الشرق نفسها شهرزاد الغرب، يتملك شهرزاد شك مريب حول المسألة، ألم تكن شهرزاد الشرق مجرد لعبة يتسلى بها شهريار وهي مازالت كذلك مع فارق التكنولوجيا المحدثة مثلما استحدثت الأبوية على رأي شرابي. شهرزاد الشرق في مجالس الخلفاء والأمراء كانت متعلمة، ولكن عقلها مغيب، لم تكن فصاحتها إلا اكسسوار التجميل لجارية عليها أن تحسن إمتاع سيدها وحاشيته. كيف يمكن يا فاطمة أن نجعل موقف روسو متخلفا عن موقف الخليفة العباسي لأن هذا الأخير كان يعلّم إماءه والآخر في “عصر التنوير” كان يحط من قيمة شهرزاد العقلية؟ يبدو أن المقارنة هنا سخيفة، وقد أتعبت عقل شهرزاد فقررت أن تضع لها نقطة، لكي تتمكن من العودة إلى السطر.
غير أن شهرزاد كعادتها تعود لتذكر نفسها بأنها بالنهاية هي إنسانة مسالمة وبريئة ولا تريد أن تشارك في أي نوع من الحروب حتى تلك الأزلية بين الذكورة والأنوثة، هي بكل بساطة حين تدق طبول الحرب تذهب إلى أقرب محل لبيع الورود وتشتري باقات ورود صففت بعناية تماما كما فعلت كلاريسا.[2] فهي بشرائها الورود تثبت شكل هويتها، هي مسالمة محبة للحياة كارهة للموت والتدمير.
1 فاطمة المرنيسي، عالمة اجتماع مغربية
2 بطلة رواية السيدة دالاوي لفيرجينيا وولف.