من هول الصدمة توقف الزمن عند حليمة واربك ميزان حياتها- Advertisement -
كانت حليمة في الثلاثين من عمرها ، وبعد تأخر قطار الزواج عنها حسب المخيال الشعبي ومفهوم العائلة وجيران الحي ،ظلت تحلم وتحلم ببيت الزوجية ، بالأطفال، بالاستقرار بدور الزوجة الصالحة والأم المكافحة ، إلى ان جاءها “الفرج ” :
فكان الزواج اولى درج في سلم أحلامها وبعد طول انتظار جاء الحمل الاول … انتظار ولهفة لاستقبال المولود ، ألم ومخاض عسيرين إلى ان جاءها “الفرج “
فكان استقبال مولودتها الأنثى بمثابة هدية من السماء جعلتها تتخطى ثاني درج من أدراج أحلامها وعمت الفرحة أرجاء البيت والحومة ..سمتها “شهد” تيمنا بقطر العسل الذي تدفق على حياتها بعد سلسلة من الانتظارات والانتكاسات…
كبرت شهد وأصبحت ذات الثلاث سنوات، خفيفة الظل مصدر السعادة في كل مكان تحل به ، تهرع لاستقبال ابيها كلما رجع للبيت منهكا من العمللتنسيه تعبه بحركاتها وضحكاتها برقصاتها وكلماتها المتقطعة ، تقتفي آثار أمها لتقلدها في كل ما تقوم بهتمتطي حذاءها بكعبه العالي لتقول انا أيضا أنثى ،تمتطي كرسيها الخشبي امام المرآة تلطخ وجهها بكل المساحيق وبألوان قوس قزح منتشية بإحساسها فراشة محبوبة عند الكل…
تمر الأشهر تلو الأشهر و تكبر شهد ومعها رغبة حليمة في إنجاب مولود جديد ، وتدرك حينها ان بداخلها رغبة دفينة في ان يكون المولود ذكرا عله يضفي المزيد من الإيجابية في أركان حياتها،عله يكون جوازا تخترق به جدار قلب زوجها ،عله يكون سرجا عاجيا تمتطيه لتحلق به فوق سماء أحلامها متناسية ان لكل جواد كبوة ….صار الكل يدعو لها بإنجاب مولود “ذكر” عائلتها، صديقاتها ،جاراتها بل وحتى طباخات حمام الحومة ،لتحظى بمحبة زوجها لها أكثر، وتحظى بلقب ام فلان .. فموروثنا الثقافي يجعل من الأنثى كائنا تابعا لرغبات الاخرين ، كائنا تحت رحمة الذكر حتى ولو كان مولودا بل حتى ولو كان جنينا ….
وجاء “الفرج “مرة اخرى وكان الحمل …قيئ ودوار وارتخاء وشهوات لا تنتهي،زارت حليمة طبيبها لتتأكد من جنس الجنين فتصارعت بداخلها سيول من الأحاسيس المتنافرة فرحة اتيان الذكر وفزع الخذلان وتكرار التجربة …ليقول لها الطبيب: عندك ذكر.
أخبرت عزيز زوجها فطار فرحا وفخرا وأعد العدة ليحتفي بمولودهما الجديد
ولما اقترب موعد الولادة ، اقتنا الوالدان سويا كل ما يلزم لاستقبال “الضيف الجديد ” منشغلين بهذا الحدث البارز وناسين وجود صغيرة بالبيت كانت بالأمس القريب محط اهتمامهما معا لتصبح في منأى عن مخططاتهما وبعينها ألف سؤال وسؤال كيف لبطن منتفخ ان يسلب منها محور اهتمام الاخرين بها؟…وتدرك بعد ان اخبروها بان امها تنتظر طفلا وبان الآتي سيصبح اخا لها وتدخل بذلك معهما كوكبة الانتظار لقدر جديد لم تكن لتفهم أبعاده ولا أفقه ، سوى اسم اختارته له ليكون ” عبد الصبور “.
كان يوم السبت يوم احست حليمة باقتراب موعد وضعها فأخذت تسارع الزمن لإتمام أشغالها قبل الذهاب للمستشفى وإضفاء لمساتها النهائية على ترتيب المنزل وتنظيفه قبل أن تركن لمخاضها ، فكان ” التخمال ” و” الحكان “والتسياق ” برنامج خطتها الاستعجالية نحو قدر مشؤوم..
كانت شهد فرحة بصب الماء والصابون، وشغوفة بمساعدة امها الحامل ،وهذه الأخيرة منهمكة في العمل وهي تجر ” الكراطة ” التي أصبحت حوافها حادة من فرط الجر وتآكل إسفنجها من الجوانب ،وتصيح بشدة على شهد لتكف عن صب الماء وتبتعد عن سطل الصابون . لكن في لمح البصر انزلقت الصغيرة وقذفت برجلها سطل الماء والصابون ليصبح الفناء مبتلا من جديد ويضيع جهد الأم سدى بعدما جففته لدقائق طوال، ودون قصد وبدون سابق نية على الإيداء هشت حليمة على شهد بالكراطة القديمة ذات الحواف الحادة لتستقر في رأسها وتسقطا أرضا، ويمتزج حينها الماء والصابون بحمرة دمها المتصبب فجأة… من هول الصدمة توقف الزمن عند حليمة واربك ميزان حياتها بين مغص البداية وألم النهاية بين مولود يريد الخروج الى الحياة بإصرار وطفلة تغادر بلا هوادة..
أخذت حليمة تصيح من الوجع والمغص معا ونقل الجميع إلى المستشفى ، وبدل توافد المباركين كان بجوارها المحققين. وبعد ولادة عبد الصبور وبدل ان تحتفي بعقيقته( يومه السابع) كان كل الحضور نساء سجينات في عنبر بسجن القرى السبع ، ونظراتهن كلها تعاطف وحسرة ، وحليمة تحضن رضيعها ووجدانها مع فقيدتها الصغيرة التي لم يكتب لها ان ترى ذلك الاخر الذي احتفلت به على طريقتها ولم تراه ولم يراها…
زرت السيدة في إطار عملي بالسجن وكانت ترضع طفلها بوجه شاحب وعيون غائرة وبال شارد يحتضن طيف “شهد ” وتكتوي بمر برحيق و رحيلها…
حاولت التواصل معها ، ولم تعرني أية اهتمام تركتها وانا أعرف القصة كاملة ، لكنني شاهدت أما ورضيعا داخل سجن بل سجون من الحسرة والندم والذهول وبين فرحة موؤودة كتب لها أن لا لترى النور.