الأفران التقليدية في المغرب.. تراثٌ “شهي” يصارع لأجل البقاء

- Advertisement -

إذا كنت تجوب حيا قديما في المغرب، فوجدت رائحة حطب زكية تنبعثُ إليك، فالمرجحُ بقوة هو أنك على مقربة فرن تقليدي، حيث تتواصلُ حرفة تحضير الخبز وفق أصولها القديمة، بدءًا من استلام أقراص العجين على ألواح خشبية من الزبونات، ووصولا إلى إخراجها محمصة تعلوها الحُمرة، وقد نضج بأناة بمحاذاة من ألسنة اللهب الخافتة.

هذه الرائحة لوحدها كفيلة بوصف مذاق الخبز الذي يجري طهوه بتفان من قبل طاهي الفرن الذي يعرف في مناطق كثيرة من البلاد بـ”الفرناتشي”.

مصطفى من أحد المحافظين على هذه الحرفة، رغم ظروف العمل الصعبة، فوجهه يعلوه الاحمرار من شدة حرارة المكان، حيث يقضي يومه أمام فوهة الفرن حتى يحضر طلبات الزبائن.

يستوي داخل حفرة صغيرة صُممت مباشرة أمام عين الفرن، كي يحشر فيها الخبّاز نفسه، ويتمكن من مراقبة نضج الفطائر والأرغفة، داخل بيت النار وتقليبها بين الفينة والأخرى.

ويعمل طاهي الفرن أيضا على التزويد بالحطب إن تراءى له خفوت اللهيب. ورغم عدد الأرغفة الكبير، لا يخطئ في لوح كل سيدة وعدد قطع الرغيف التي جلبت معها إلى الفرن.

مصطفى، وهو أب لثلاثة أطفال، بدأ ممارسة هذه المهنة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. بدأ مُتعلّما بأحد أفران الرباط، ثم أصبح “مُعلّما” بعد سنين من ممارسة المهنة. ولقن بدوره أصول الحرفة لعدد لا يستهان به من الصغار الراغبين في التعلم.

بخطى متسارعة، تتقاطر عليه نساء أتين من كل ركن بالحي، لطهي خبز قمن بإعداد عجينته في الساعات الأولى من الصباح. يتأبطن أطباقا خشبية تحمل العجين، تسمى “وصلة” بالعامية، أو يحملنها فوق رؤوسهن، كما يحلو للجدّات فعل ذلك، على الطريقة القديمة.

قبل سنوات، كانت الأحياء الشعبية بالمدن المغربية تعُجّ بالأفران. جل الأسر كانت تعتمد عليها حتى تطوها خبزها.

لكن كثيرا منها بدأ يغلق أبوابه تِباعا. فقد غزت المخابز العصرية الأحياء، وبات الخبز الجاهز المرتبُ بعناية داخل رفوف المخابز العصرية أكثر إغراء، بالنسبة للأسر والنساء العاملات اللواتي لا يجدن وقتا لتحضير الخبز في المنازل.

إقبال ضعيف

يقر مصطفى بتراجع الإقبال على الأفران الشعبية. فباستثناء المناسبات، التي تُقبل النساء خلالها على إعداد الحلويات، وطهوها في الأفران التقليدية، كذكرى المولد النبوي مثلا، فإن عدد الزبائن ينخفض يوما بعد يوم.

كما بات الآن بمقدور حتى الأسر ذات الدخل المحدود أن تقتني أفرانا كهربائية. وقال إن عائدات فرنه أصبحت متواضعة جدا، وتغطي بالكاد تكاليفه من شراء الحطب وأداء فواتير الكهرباء وغيرها، مؤكدا أن هامش الربح أضحى قليلا جدا.

تقول فاطمة، وهي امرأة في نهاية الخمسينات من العمر بأحد الأحياء الشعبية بمدينة الرباط، إنها تحرص كل صباح على إعداد قطع العجين، وترسلها مع أحد أحفادها إلى الفرن التقليدي المتاخم لمنزلها.

بالنسبة إليها، وجبة الغداء لا تستقيم دون خبز يُعد في البيت، وتضيف في حديث لـ”سكاي نيوز عربية”، “الخبز المعدُّ في المنزل صحي، ورغم توفري على فرن حديث، أفضل طهو خبزي في الفرن. لا شيء يضاهي خبز الفرن اللذيذ المطهو برفق.

وتدفع السيدة فاطمة مبلغا زهيدا جدا يقارب نصف درهم مغربي (0.05 دولار) لأحد مساعدي “الفرناتشي” الصغار، مقابل إنضاج رغيف خبز الواحد.

كما تعتمد على فرن الحي أحيانا في إعداد وحتى طهو بعض الأكلات الشعبية مثل “تاكرا” وهو طبق سمك شبيه بالطاجين المغربي الشهير، وبعض الأكلات مثل “الطنجية” التى تطهى في الفرن التقليدي.

ويشكل الفرن الشعبي جزءا من تراث المدن المغربية، فلا تخلو مدينة من هذه الأفران، ولطالما كان “الفرناتشي” بشخصيته موضوعا للحكايات والقصص الشعبية المنسوجة حوله، لكن مظاهر التمدن وغزو الأفران العصرية البيوت، أصبحت تهدد باندثارها.

ويقر سكان الأحياء الشعبية بتغير الحال بين الأمس واليوم، فوجود فرن شعبي في الحي كان يعد حتى الأمس القريب ترفا لقربه وسهولة الوصول إليه، أما اليوم فاللجوء لخدماته يقتصر على المناسبات أو أيام العطلة.

تحولات كبرى

ويقول الدكتور عبد الغني العمراني، الباحث في التاريخ المعاصر لموقع “سكاي نيوز عربية”: “مع توالي السنواتـ أمست هذه الأفران مكوّنا رئيساً في حياة الناس اليومية بل إنها تمثل في نظرهم رمزاً للجودة في تقديم الخدمات وللحياة الطبيعية التقليدية غير المصطنعة، وإرثاً ثميناً ضارباً في عمق التاريخ لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عن خدماتها الجليلة”.

ويفسر العمراني، هذا التراجع الكبير الذي عرفته الأفران، بدخول العالم منذ مطلع التسعينيات إلى ما سُمي في الأدبيات السياسية بــ”النظام العالمي الجديد” الذي يستهدف بالأساس توحيد النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الثقافية على النمط الغربي الرأسمالي.

وبحكم موقعه “الجيوستراتيجي”، يضيف الباحث، فإن المغرب اضطر إلى الاندماج في نظام “الغربنة”، وباندماجه تغيرت البنى الاقتصادية و”الاجتماعية الثقافية” للمجتمع المغربي الذي سلك منحى نمط الحياة الغربية، وتخلى تدريجيّاً عن أسلوب الحياة التقليدية المعهودة. وبعدما كانت أفران الحيّ تمثل شكلاً من أسلوب الحياة التقليدية للمغاربة فإنها أضحت مع بداية “الأمْرَكَة” مهددة بالزوال.”

وما زالت بعض الأفران تقاوم الاندثار، أمام زحف التكنولوجيا، وتطور أدوات المطبخ، وبداية عهد المنزل الذكي. بل وشرعت بعض الجمعيات في بعض مدن المملكة في التأقلم وتطوير أفرانها.

في مدينة شفشاون شمالي المغرب، على سبيل المثال، يقوم مهتمون بالتراث بتزويد أفران مدينتهم بنظام الحمل الحراري لتقليص الغازات الدفيئة. وهذا المشروع له أهداف مستدامة، بحيث سيمكن من تقليل من استعمال الحطب، وتبعا لذلك، ستقل الغازات الدفيئة كما ستتراجع التكلفة، مما سيساهم، حسب القائمين على هذا المشروع، في تحسين عيش أصحاب الأفران وتغيير ظروف اشتغالها نحو الأفضل.

وتطمح جمعيات أخرى إلى تعميم هذا النموذج ليشمل الأفران التقليدية في كل المدن المغربية العتيقة وكذا الحمامات التي تعتمد على الحطب.

المصدر سكاي نيوز عربية