حكيمات المعارف التقليدية بالمغرب
فوزية طالوت المكناسي
تعد المعرفة التقليدية، المعروفة أيضًا بالحرف اليدوية أو الصناعة التقليدية، والتي تحملها نساء المغرب، خيطاً رفيعاً يربط قمم الجبال بالسهول، وشواطئ البحار بأعماق الواحات، وباحات المنازل العتيقة بصالونات الإقامات الحديثة. فالمغرب يستنشق المعرفة التي تبدعها نساء مبتكرات، خلاقات، رائعات، عاملات، وشجاعات.
وتمثل المعرفة التقليدية ثروة وطنية حقيقية وأداة اقتصادية مهمة. فكل منتوج تصنعه أيادي هؤلاء النساء يجسد رابطًا إنسانيًا عميقًا، ببُعد اقتصادي يُغطي احتياجات مالية مهمة، وغالبًا ما يكون المصدر الوحيد المتاح لكسب لقمة العيش.
فمن التطريز إلى الشبكة، ومن القفطان إلى المجوهرات، ومن السجاد إلى الحنبل، ومن الفخار إلى الجلد، ومن قماش البزيوي أو السايسي إلى التدرزات، ومن السلال إلى السفيفة؛ لكل منتوج من هذه المنتوجات له وظيفته العملية والجمالية وقيمته التسويقية، وكل منتوج يحكي قصة نساء المغرب أو مغرب النساء. تلك الحكاية المتشابكة بين نساء المدن ونساء القرى والبوادي، كل منهن بخصوصياتها، بموهبتها، بتجربتها، بكفاحها، وتضحياتها، وبأفراحها وأتراحها، أيضا.
إن المعرفة التي تحتكرها آلاف النساء من جميع أنحاء ترابنا الوطني المغربي ليست معرفة مكتسبة في إطار مؤسسات التدريب والتكوين؛ بل هي معرفة تطورت، وتتطور، داخل الجماعة والعائلة، سيما وأنها تتوارث عبر الأجيال.
إن هؤلاء النساء الحرفيات فاعلات اقتصاديات حقيقيات، ليس فقط لأطفالهن وأسرهن وقراهن ومدنهن، بل لوطنهن أيضاً. إبداعاتهن تتجاوز كل الحدود، لتجد حصيلتها في سعيهن نحو “الكرامة”. هاته المعرفة ليست سوى رافعة للتمكين والقيادة وتعزيز حقوق النساء، ودعوة إلى التفكير المشترك لمساعدة هؤلاء الآلاف من النساء على تطوير أنشطتهن وربطهن بالنظام الاقتصادي المحلي و/أو الوطني، فهذه المسألة لم تعد في مغرب اليوم من الكماليات، بل أصبحت من الضروريات أكثر من أي وقت مضى.
لقد كانت هذه المعرفة، في الماضي غير البعيد، محفوظة بغيرة كبيرة، ونقلت بعناية من جيل إلى آخر، لتلعب دورًا حاسمًا في اقتصاد المجتمع. كيف لا وهي تلبي احتياجات الأسر وتندمج بشكل سلس في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والبيئي للبلاد. كما أن استخدام هذه المعرفة يتبع نهجًا صارمًا ومنظما، يستخدم منطلق التدبير. وكانت الأنشطة تتم في إطار تجمعات حرفية منظمة حسب المهنة ويديرها أشخاص موثوقون: الأمناء والمحتسبون. وفي اللغة العامية، نسمي هذه المعرفة بالحرفة. إنهن آلاف النساء اللواتي يحملن حرفًا مختلفة، يُطلق عليهن اسم الصانعات التقليديات.
بتفانٍ مطلق، تتقن هؤلاء النساء الخياطة والتطريز بكل أشكاله، والنسيج والحياكة، وتحضير الجلود، وصناعة الفخار، فهن يشتغلن لتلبية احتياجات أسرهن، وغالبًا ما تكون هاته الاحتياجات ذات أولوية.
إن إنجاز هذه الأعمال الرائعة على اختلافها يتطلب الذوق، والخيال، والأصالة، والمهارة، والوقت، والجهد، كما يستوجب إتقانًا فنيًا رفيعا يتم اكتسابه عبر ساعات طويلة من التكوين. وعلى اختلاف أعمالهن، هناك روابط صداقة وتآزر متينة تجمع بين هؤلاء الحرفيات المبدعات.
فما هو الرابط الاستراتيجي بين المعرفة التي تحتفظ بها آلاف النساء المغربيات والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، سواء على الصعيدين الفردي والمحلي، أو حتى الوطني؟
هل يمكن لهذه الثروة الغنية بالمعرفة والبراعة التي تحظى بها أجيال متعاقبة من النساء أداء دور ذي أهمية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المغرب؟
وماذا عن المكانة التي تستحقها هؤلاء النساء الموهوبات، في مجتمع لا يقْدِرُ، ولن يَقْدِرَ على الاستغناء عنهن؟
بعض هذه الأسئلة لها إجابات، فيما يبقى البعض الآخر بدون جواب. لذلك، ارتأت مجلتكم “فرح”، خلال ملف هذا الشهر (يناير 2024)، تقديم بعض الأجوبة إلى قُرَّائها الكرام حول المساهمة الاجتماعية والاقتصادية لآلاف النساء العاملات في قطاع الصناعة التقليدية.