من أجلها بنيت مراكش وبمشورتها توسع حكم يوسف بن تاشفين.. زينب النفزاوية شهيرة تاريخ المرابطين
نشأة زينب النفزاوية في بيت تجارة وحضارة، جعلها تراكم خبرة واسعة في التدبير السياسي ومن المعرفة بشؤون المغرب السياسية والاجتماعية، مما أهّلها لتصير مستشارة خبيرة وآمنة.
من طريف ما يقال عنها أنها أول من ألقت سحر جمالها على مراكش لتستمر كواحدة من أجمل مدن العالم، تُذكر حين الحديث عن الحكمة والسياسة، ويبرز اسمها شامخا عند أوصاف الحسن والجمال ورجاحة العقل والكياسة.
هي زينب بنت إسحاق النفزاوية نشأت في بيئة تجارة وثروة وتقاليد حضارية، ابنة تاجر من قبيلة نفزاوة الزناتية، هاجر والدها إلى أغمات بسبب الحروب والفتن التي عرفتها أفريقية (تونس) بعد زحف القبائل العربية الهلالية عليها خلال القرن الخامس الهجري/ الـ11 ميلادي.
الجميلة الحكيمة زوجة الأمراء
حسب روايات المؤرخين فإن زينب النفزاوية كانت امرأة حسناء ذات طموح وبعد نظر، عُرفت بزوجة الأمراء، حيث تزوجت 3 أمراء رابعهم يوسف بن تاشفين أمير المسلمين وموسع إمبراطورية المرابطين.
جاء ذكرها في كتاب “من كتاب الاستقصا لتاريخ المغرب الأقصى- الجزء الثاني” بمعرض حديث كاتبه المؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري عن فتوحات الأمير أبو بكر اللمتوني (من الأمراء المؤسسين للدولة المرابطية) ووصوله لأغمات.
يقول الناصري “… ثم ارتحل إلى مدينة أغمات، وبها يومئذ أميرها لقوط بن يوسف على المغراوي… وكان للقوط امرأة اسمها زينب بنت إسحاق النفزاوية، قال ابن خلدون وكانت من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة… وكانت قبل لقوط عند علي بن عبد الرحمن بن وطاس شيخ وريكة فلما قتل المرابطون لقوط بن يوسف المغراوي خلفه أبو بكر بن عمر على امرأته زينب بنت إسحاق”.
ويضيف الناصري “كان الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني قد تزوج زينب بنت إسحاق النفزاوية وكانت بارعة الجمال والحسن وكانت مع ذلك حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور حتى كان يقال لها الساحرة”.
ويوضح محمد أقديم الأستاذ والباحث بالتاريخ الاجتماعي للمغرب -في حديث مع الجزيرة نت- أن زينب تزوجت يوسف بن علي بن عبد الرحمن بن وطّاس الأوريكي المصمودي شيخ قبيلة أوريكة (اتحادية قبلية مصمودية عاصمتها أغمات).
وبعد سيطرة لقوط المغراوي على مدينة أغمات ومقتل زوجها الأول، تزوّجها لقوط، وهو من أصول زناتية، وعندما سيطر المرابطون على أغمات -بزعامة عبد الله بن ياسين الجزولي الدينية وقيادة أبي بكر بن عمر اللمتوني السياسية- تزوّجها أبو بكر بن عمر اللمتوني الصنهاجي سنة 452هـ/1062م، ولما قرر العودة إلى الصحراء لإطفاء نار حرب قبلية اندلعت بين بعض مكونات اتحادية صنهاجة في الصحراء طلّقها، وأوصاها بالزواج من ابن عمه يوسف بن تاشفين سنة 453هـ/1061م، والذي عينه واليا له على بلاد المغرب.
شخصية نسائية كبيرة ذُكرت في التاريخ عرضا
عزم الأمير أبو بكر بن عمر على الخروج للصحراء ليصلح أمرها فطلق النفزاوية، وقال لها عند فراقه “يا زينب إني ذاهب إلى الصحراء وأنت امرأة جميلة بضة لا طاقة لك على حرارتها، وإني مطلقك فإذا انقضت عدتك فانكحي ابن عمي يوسف بن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغرب” (من كتاب الاستقصا).
وحسب محمد أقديم، فالحديث عن شخصية نسائية كبيرة من قامة زينب النفزاوية يقتضي استحضار السياق التاريخي الذي برزت فيه هذه الشخصية، وسجل أقديم مجموعة من الملاحظات منها أن المصادر التاريخية لم تذكر من سيرة زينب النفزاوية إلا ما ارتبط بأميرين كبيرين من أمراء الدولة المرابطية، وهما أبو بكر بن عمر اللمتوني وابن عمه يوسف بن تاشفين.
والحديث عنها في المصادر التاريخية أتى عرضا فقط وليس قصدا، في إطار سعي الإخباريين لنقل خبر انتقال الحكم من الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني إلى ابن عمّه يوسف بن تاشفين.
عنوان سعد ومجد ابن تاشفين
يقول ابن خلدون “حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة واستعمل ابن عمه يوسف بن تاشفين على المغرب، نزل له عن زوجه زينب هذه فكان لها رياسة أمره وسلطانه.
وكانت زينت النفزاوية سندا لزوجها يوسف بن تاشفين ويرجع بعض المؤرخين نجاحه وإنجازاته -في جزء كبير منها- إلى هذه المرأة.
وكان أبو بكر قد قال لابن عمه يوسف بن تاشفين “تزوجها فإنها امرأة مسعودة”.
ويقال إن زينب النفزاوية كانت تقول لتاشفين “سأجعل منك سلطانا كبيرا يحكم المغرب بأكمله”، وظلت تحفزه على استكمال فتوحات سابقيه وتثبيت دعائم أركان مملكة المرابطين، وباتباع نصائحها قوى يوسف ثروته وجيشه وشوكته وتوغل في فتح مناطق جديدة.
وجاء في كتاب الاستقصا أنها “كانت عنوان سعده، والقائمة بملكه، والمدبرة لأمره، والفاتحة عليه بحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب” وكان يوسف يذكر دوما فضل زينب أمام الملأ من الناس ويثني عليها ثناء حسنا، فكان إذا اجتمع بأبناء عمومته يقول “إنما فتح الله البلاد برأيها”.
ويعتبر أقديم أن تقلب حياة زينب الزوجية بين أزواج ينحدرون من أصول قبلية مختلفة، من العصبيات الثلاث الكبرى التي تشكّل القاعدة البشرية ببلاد المغرب (مصمودة – زناتة – صنهاجة) بالإضافة إلى نشأتها في بيت تجارة وحضارة؛ جعلها تراكم خبرة واسعة في التدبير السياسي، ومن المعرفة بشؤون المغرب السياسية والاجتماعية، ونضجت هذه الخبرة وأثمرت هذه التجارب، مع زوجيها الأخيرين الصنهاجيين (أبو بكر بن عمر ويوسف بن تاشفين)، مما أهّلها لتصير مستشارة خبيرة وآمنة لهما.
بمشورتها بنيت مراكش
وقد أغرق ابن تاشفين في حب زينب، وأسس مراكش هدية انتقالها للعيش بها، وقد استُلهمت من قصتها أعمال روائية وسينمائية، صُوّر فيها نمط عيش السيدة الأولى لدولة المرابطين، وهو نمط لم يشهد تاريخ المغرب مثله، وتشهد معظم الروايات أنها كانت صاحبة فكرة تشييد مراكش عند بداية تأسيسها على يد أبي بكر، واستكمالها من طرف ابن تاشفين الذي يعد المؤسس الفعلي لها، وكانت النفزاوية وراء التحفيز لتكون عاصمة جديدة لدولة المرابطين.
مهندسة انتقال سلمي للسلطة
في سياق تعليقه على دور النفزاوية السياسي، يرى محمد أقديم -في حديثه مع الجزيرة نت- أن ما سمح للنفزاوية بالبروز على مسرح الأحداث عملية انتقال الحكم في تاريخ أكبر وأهم دولة أقيمت بالغرب الإسلامي، مشيرا إلى أن عملية انتقال الحكم بين الأميرين المرابطين كانت عملية سلمية فريدة في تاريخ المغرب خلال العصر الوسيط إن لم نَقل في تاريخ كل السلالات الحاكمة بالغرب الإسلامي.
وكان المألوف والمعتاد في تاريخ السلالات الحاكمة بالمغرب هو انتقال الحكم بعد وفاة ملك أو سلطان إلى ابنه أو أخيه، والذي كثيرا ما تترتّب عنه الفتن والحروب على الحكم، في حين، يوضح أقديم أن الوضعية المرابطية تتعلّق بانتقال الحكم من أمير حيّ وقوي (أبو بكر بن عمر) إلى ابن عمّه كأمير قوي وصاعد أثبت جدارته بالحكم والسلطة.
ويؤكد أقديم أن حضور زينب النفزاوية في هذا الانتقال السلس للسلطة، كشف عن دورها الكبير في المشهد السياسي المرابطي عموما، الذي عرف حضورا كبيرا للمرأة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
واقعة انتقال الحكم كما جاءت في “الاستقصا”
“كان يوسف بن تاشفين قد استفحل أمره أيضا بالمغرب، واستولى على أكثر بلاده. فلما سمع الأمير أبو بكر بن عمر بما آل إليه أمر يوسف بن تاشفين وما منحه الله من النصر أقبل من الصحراء ليختبر أمره. ويقال إنه كان مضمرا عزله وتولية غيره.
فأحس يوسف بذلك، فشاور زوجته زينب بنت اسحق فقالت له: إن ابن عمك متورع عن سفك الدماء، فإذا لقيته فاترك ما كان يعهده منك من الأدب والتواضع معه وأظهر أثر الترفع والاستبداد حتى كأنك مساو له، ثم لاطفه مع ذلك بالهدايا من الأموال والخلع وسائر طرف المغرب واستكثر من ذلك، فإنه بأرض صحراء وكل ما جلب إليه من هنا فهو مستطرف لديه.
فلما قرب أبو بكر بن عمر من أعمال المغرب خرج إليه يوسف بن تاشفين فلقيه على بعد، وسلم وهو راكب سلاما مختصرا. ولم ينزل له ولا تأدب معه الأدب المعتاد، فنظر أبو بكر إلى كثرة جيوشه فقال له: يا يوسف ما تصنع بهذه الجيوش؟ قال: أستعين بها على من خالفني.
فارتاب أبو بكر به ثم نظر إلى ألف بعير قد أقبلت موقرة فقال: ما هذه الإبل الموقرة؟ قال: أيها الأمير إني قد جئتك بكل ما معي من مال وأثاث وطعام وإدام لتستعين به على بلاد الصحراء، فازداد أبو بكر تعرفا من حاله وعلم أنه لا يتخلى له عن الأمر.
فقال له يا ابن عم: انزل أوصيك، فنزلا معا وجلسا فقال أبو بكر: إني قد وليتك هذا الأمر وإني مسؤول عنه فاتق الله في المسلمين وأعتقني وأعتق نفسك من النار ولا تضيع من أمور رعيتك شيئا فإنك مسؤول عنه. والله يصلحك ويمدك ويوفقك للعمل الصالح والعدل في رعيتك وهو خليفتي عليك وعليهم، ثم ودعه وانصرف إلى الصحراء”. (من كتاب الاستقصا).
المصدر الجزيرة